الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

كيف لمحكمة دولية أن تحكم في جريمة سياسية في بلد ممنوع عليه أن تكون فيه حياة سياسية؟

غسان صليبي
كيف لمحكمة دولية أن تحكم في جريمة سياسية في بلد ممنوع عليه أن تكون فيه حياة سياسية؟
كيف لمحكمة دولية أن تحكم في جريمة سياسية في بلد ممنوع عليه أن تكون فيه حياة سياسية؟
A+ A-

ليس سهلاً على الانسان ان يتقبل القتل. فهو يحتاج دوما الى تبرير لتقبله. تبرير أخلاقي او ديني أو عقائدي. أي انه يحتاج الى تبرير، له طابع الفوقية وصفة القيمة العليا.

لم يحزن جميع اللبنانيين، وإن حزن معظمهم، عندما قُتل رفيق الحريري. فالحريري رجل سياسي له محبّوه ومبغضوه، وكان يمثل مذهبا دينيا أتُّهِم في حينه بالسعي للهيمنة على بلد المذاهب، بواسطة المال. فهو يمثل أيضا الرأسمال الكبير، الذي أقر سياسة مالية اقتصادية، رأى فيها البعض عملية استيلاء على الوسط التجاري، وإضعافاً للقطاعات المنتجة لصالح قطاعي المصارف والعقارات، وإثراء فئة قليلة من اللبنانيين على حساب إفقار أكثرية من بينهم. كما أنه بالنسبة إلى آخرين، كان تابعا للسعودية ومتعاونا مع اميركا وغير معادٍ لإسرائيل. أخطر من ذلك بالنسبة إلى هؤلاء، أنه كان قبل وفاته "يتآمر" على سوريا من اجل إخراجها من لبنان، من خلال قيادة معارضة داخلية مسنودة من الخارج.

ليس مهما اذا كانت هذه الاتهامات صحيحة، المهم انها كافية، منفردة او مجتمعة، لتبرير قتل الرجل وعدم الحزن عليه، من قبل فئة من اللبنانيين لم تكن قليلة العدد، عندما ارتكب الجرم.

فليس محسوما في لبنان ان الاغتيال السياسي او المذهبي جريمة، حتى لو كان القتيل مسالما ويستخدم وسائل سياسية في عمله السياسي.

الحرب بالنسبة إلى كلوسويتز هي استمرار للسياسة بطرق إخرى. السياسة بالنسبة إلى أمراء الحرب اللبنانيين، القدامى والجدد، هي استمرار للحرب بوسائل أخرى، وإذا قتضى الامر، بوسائل الحرب نفسها.

مَن اغتال الحريري اغتال مسارا سياسيا، واستبدله بمسار مبني على العنف. الاغتيال السياسي لا يغتال شخصا، بل آلية سلمية لإتخاذ القرارات السياسية وتسوية النزاعات. جزء كبير مما وصلنا اليه اليوم هو وليد هذا الاغتيال. من احتدام الصراع السني الشيعي، الى ثنائية ٨ و١٤ آذار، الى مسلسل اغتيال قيادات سياسية من ١٤ آذار، الى ٧ ايار، الى اتفاق الدوحة، الى هيمنة "حزب الله"، الى انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية رغم معارضة اولية من جميع الكتل النيابية، بإستثناء كتلة "حزب الله". ومهما اختلفنا في تقدير ما كان ليكون عليه الوضع لو بقي الحريري حيا، لا يمكن الا ان نتفق انه لا يوجد اي احتمال بأنه كان ليكون أسوأ مما نحن عليه اليوم.

اصلا المسار الذي جاء بالحريري لم يكن سياسيا ايضا. فاغتيال الرئيس معوض، المسالم أيضا، واطاحة ميشال عون بالقوة من قبل النظام السوري، اسسا لمسار قائم على تحكم السوريين بالقوة في السياسة اللبنانية.

اي عمليا، ومنذ ١٩٥٧، لا حياة سياسية في لبنان، بل ثرثرة سياسية وظيفتها ان تبرر ما يقرره العنف الخارجي والداخلي.

المحاولة الجدية الوحيدة والحديثة لإعادة الحياة السياسية الى لبنان، كانت انتفاضة ١٧ تشرين. فعادت الأطروحات السياسية والبرامج، والحوار، واستخدام الوسائل الديموقراطية السلمية في الضغط على الخصم لتعديل موقفه. وقدمت الانتفاضة مثلا حيا لتدخل الشعب في السياسة، مباشرة، وبدون إيعاز او تدخل خارجي.

لكن المحاولة تعثرت. وإذا كانت عدة عوامل ادت الى هذا التعثر، فإن اهم العوامل البارزة، الى جانب تعطيل الحياة السياسية والديموقراطية البرلمانية، هي معارضة "حزب الله" في الموقف وعلى الارض. ومعارضته ليست عاملا سياسيا فحسب، بل عسكري أيضا.

***

لا استطيع ان أقيّم مدى صدقية حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، الذي اتهم عنصرا من "حزب الله"، هو سليم عيّاش، باغتيال الحريري. فلا قدرة لي، على مستوى الاختصاص او على مستوى الكشف الميداني، على التثبت من الوقائع، ولا على الجزم بصوابية الاحكام القانونية التي استند اليها. وأعتقد ان الاكثرية الساحقة من اللبنانيين هي في وضعي.

لكني في المقابل استطيع ان أفترض بكل راحة ضمير، ان "حزب الله" لم يحزن على اغتيال الحريري. فلا يستطيع المحزون، ومهما كانت الاسباب، ان يحشد مذهبيا في 8 آذار وبعد ثلاثة اسابيع فقط من الجريمة، ليقول شكرا لسوريا الاسد ويهدي سلاحا قاتلا إلى ممثلها في لبنان. في وقت كان الرأي العام اللبناني في معظمه، والرأي العام السني في أكثريته الساحقة، مفجوعا ومقتنعا بأن سوريا هي التي قتلت الحريري.

لا يدل على اسفٍ على قتل الحريري، ان توضع لافتة في بلدة حاروف في الجنوب حيث ولد عيّاش، ومباشرة بعد صدور الحكم، ويُكتب عليها ان "أبناء البلدة يفتخرون بإبنهم المقاوم". فضلا عما تناقتله وسائل التواصل الاجتماعي من تعليقات، وابرزها هاشتاغ: "من قتلناه... يستحق",

***

ليس من صلاحيات المحكمة التوسع في دوافع من هم وراء الاغتيال، او القول من هم اصحاب القرار، ولا صلاحية قانونية لها باتهام منظمات او دول.

بمعنى آخر، لم يشأ مجلس الامن، ومن الاساس، ان تتدخل المحكمة في السياسة، فلا الاميركيون ولا الروس راغبون في ان تكون هناك حياة سياسية في لبنان.

رغم ذلك، ومع الاخذ في الاعتبار ان وسيلة المحكمة هي "الادلة"، قال قرار المحكمة ان "الادلة" أظهرت سيطرة سوريا على النواحي العسكرية والامنية والسياسية في لبنان، وأن التحقيق الذي قادته السلطات اللبنانية كان فوضويا وتم العبث بمسرح الجريمة، والامن اللبناني ازال "أدلة" مهمة من موقع التفجير. وجزم القرار ان "اغتيال الحريري عمل ارهابي نفذ لاسباب سياسية لا لاهداف شخصية"، وان الاعتداء عليه "لا يمكن ان يكون بعيدا عن السياق السياسي، وفهم الخلفية السياسية للاعتداء يتيح فهم سبب الاغتيال".

السياق السياسي، كما هو معروف للجميع، هو قرار الحريري الانخراط آنذاك في اوساط المعارضين للوجود السوري في لبنان وخوض الانتخابات النيابية ضد اتباعها في لبنان.

لكن، لانه ممنوع ان تكون في البلد حياة سياسية، لا صلاحيات المحكمة تسمح باتخاذ قرار ذي انعكاسات سياسية، ولا تحليلها السياسي يمكنه ان يصل الى استنتاج سياسي.

***

إنّ قرار المحكمة اراح، على الارجح، الحريري الابن غير القادر على مواجهة "حزب الله"، وخفف عنه الضغط السعودي والاميركي. وزاد على الارجح ايضا احتمالات ترؤسه الحكومة المقبلة، حتى مع تمثيل لـ"حزب الله" ولو مموهاً. وربما سهّل قرار المحكمة الذي صدر، مسألة تحويل قضية انفجار بيروت الى تحقيق دولي، مما يبقي مصير البلد بيد الدول العظمى والاقليمية، ويمنع عن شعبه ممارسة حقه السياسي في تقرير مصيره، والعيش بسلام.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم