الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

عندما يندم الزعيم وقت لا ينفع الندم

الدكتور نبيل نجا
عندما يندم الزعيم وقت لا ينفع الندم
عندما يندم الزعيم وقت لا ينفع الندم
A+ A-

تردّدت كثيراً قبل أن أكتب هذه القصة الواقعيّة التي حدثت معي منذ أيام ليست ببعيدة.لكنها علمتني درساً وأعطتني عبراً أحببت مشاركة الأصدقاء بها. 

بحكم اختصاصي في طبّ الشيخوخة، أقوم بزيارة بعض المرضى في منازلهم حين لا تسمح ظروفهم الصحية الانتقال إلى عيادتي لمعاينتهم، وقد اتصل بي منذ أشهر رجل (العم سامي) قدّم نفسه على أنّه مساعد أحد الشخصيّات العريقة سابقاً (معاليه) والمعتزلة والمتوارية عن الأنظار لكي أعاينه في منزله.

بالطبع سُررت بثقة عائلة معاليه، ولكنني استغربت أن لا أحد من أبنائه بادر إلى الاتصال. 

اتفقنا على موعد اليوم التالي، وأخذت العنوان وفي طريقي إليه بدأت أتذكّر أياّم عزّ معاليه وكيف كان يُحمل على الأكتاف... خطاباته الرنانة لأنه كان متملكاً من لغته العربية. شخصيته القوية حيث أن لا أحدا كان يقوى على رفع رأسه حين يمرّ بجانبه، فله من الهيبة والهالة مقدار يفرض نفسه على كلّ من يجالسه. 

تعاقب معاليه على العديد من الوزارات، فقد كان ابن العائلة السياسيّة العريقة والرقم الصعب الذي من دونه لا تركب الحكومات. 

أفكار عديدة أتتني، لكني أحضر نفسي لمقابلة الشخصيّة الفريدة، وأتمرّن على الكلمات التي سأقولها في أول اللقاء. كنت متحمساً جداً وخائفاً في نفس الوقت، لأنني أعلم مدى صلابة هذا الرجل وفظاظته في بعض الأحيان، بخاصة أنّه عندما يذهب الطبيب إلى بيت المريض يفقد البعض من هالته الاجتماعية، فالدخول إلى العيادة ولقاء السكرتيرة ثم الممرضة والبقاء في غرفة الانتظار والدخول إلى غرفة المعاينة حيث يكون الطبيب بالرداء الأبيض خلف مكتبه. كل هذا الجوّ نفتقده خلال الزيارة المنزلية. 

وصلت إلى بيت معاليه الذي لم أزر مثله في حياتي ابداً، فبالرغم من وجوده في العاصمة، فإنه يتمتع بأسقف عالية كتلك التي نراها في القصور وأبواب ضخمة لا يمكن تحريكها إلا باليدين... لن أتكلم على التحف واللوحات التي تزين المدخل والصالونات، فقيمتها وأنا لست بخبير قد تكفي لإعالة قرية بأكملها مدى العمر.

وقد علمت بأنّ هذا المنزل ليس الأساسي، بل يملك معاليه قصراً في مسقطه لا يمكنني وصفه، كذلك الشقق والشاليات في لبنان وبعض دول اوروبا. 

استقبلني عند الباب رجل سبعيني، طيب، متواضع، أخبرني بأنّه هو من اتصل بي ورتًب الموعد، وأنّه كان سائق معاليه لفترة طويلة وحالياً يساعده ويلازمه باستمرار. 

بالرغم من سروري بلطف وتهذيب مستقبلي، كنت افضل أن أرى معاليه في استقبالي عند الباب، كأنّ العمّ سامي كان يقرأ أفكاري فأخبرني بسرعة بأنّ معاليه في غرفته لا يستطيع السير، وبالتالي عليّ معاينته في غرفة نومه. 

ولكن قبل الدخول، طلب منيّ العمّ سامي إلقاء نظرة على ملفه الطبيّ الموجود في غرفة الطعام. دخلت غرفة السفرة، التي لم أر مثلها إلا في غرفة الملكة إليزابيت في برنامج وثائقي. 

بدأت بفتح الملف وقراءته، فتبين لي بأنّ معاليه الذي كان يعاني داء السكري والضغط وارتفاع الدهنيات، قد أصيب منذ مدة بجلطة دماغية أثّرت في النطق، وأدّت إلى شلل نصفي، ولم يتحسن بالرغم من كلّ محاولات إعادة التأهيل التي مورست عليه من أفضل المراكز، حينها علمت أنّ مهمتي ستكون صعبة للغاية، لكنني سأحاول لعليّ أستطيع استحداث أيّ تغيير إيجابيّ. عندما انتهيت من تصفّح الملف طلبت أن أدخل إلى غرفة معاليه لمعاينته. 

الغرفة ليست بكبيرة، وليس لها شرفة ارتفاع. السقف عادي ولها حمام منزوع الأدوات الصحيّة، لأن معاليه ليس بحاجة لها، وفيها فقط ما يلزم لتقديم الحمام له على الكرسي المتحرك المعدني... في الغرفة كنبتان وكرسيّ ومعه كانت هناك ممرضتان من دول أجنبية آسيوية.

عندما وقعت عيناي على عيني معاليه، انهارت بلحظة كلّ الهالة المعظمّة التي كنت أرسمها وأنا في طريقي إليه. 

لا يسعني وصف نظرة معاليه بالدقة المطلوبة. فهي إلى جانب الكبرياء المتعجرّف المعروف به سابقاً، تندمج مع حزن عميق وأسى ولوعة لا متناهية. 


لم يستطع التفوّه بأي كلمة، لأنّه فاقد قدرته على النطق، لكنّه لم يفقد قدرته على الفهم وهذا هو الألم المضنيّ. فقد قرأ في عينيّ انهيار صورته الفخمة التي كنت أتخيله عليها. علم بأنه انتابني شعور غريب من الارتباك وعدم التصديق بأنّ معالي الرجل الصلب القوي القاسي الشرس الفتاك، أصبح لا يقوى على لمس جبينه حين يؤلمه ولا يستطيع طلب ماء حين يعطش، ويخجل من نفسه لأنه فقد القدرة على التحكم حتى بقضاء حاجته. 

كنت أحاول جاهداً أن أخفي الشفقة في نظراتي، متنكراً بابتسامة عريضة، محاولاً أن أخبره بالشرف الكبير واعتزازي بالثقة التي أولاني بها حين طلب أن أزوره وأعاينه، مع إنني كنت على يقين بأنّه لا يصدقني، وكان يعلم بأنني كنت أفضل أن أتعرّف إليه وهو في عز قوته وجبروته.

حين قرأتُ رسالة عدم التصديق في عيني معاليه، قررت أن أتوقف عن الكذب والتملّق وأن أتوجه إليه فقط بإنسانية ناسياً الألقاب والمقامات.

توجهت إلى العم سامي وسألته: "هل لديه أولاد، فأجابني نعم، ولدان وبنت، الكبير في جنيف والابنة في كندا، والأصغر يعيش في الولايات المتحدة، ولم يزر لبنان منذ أكثر من عشر سنوات". 

فقلت: وزوجته؟ فقال بعدما استيقظت من قيلولة بعد الظهر، ذهبت إلى منزل صديقتها حيث تجتمع مع آخرين للعب الورق ستة أيام في الأسبوع، وهي لم تحب أن تغيّر عاداتها بالرغم من قدوم طبيب للكشف على معاليه. 

قالها العم سامي متأثراً، ولكنه لم يرد أن يسترسل، كأنه كان يريد القول بأنّ كل هذا العزّ التي تتمتع به الزوجة والأولاد هو من صناعة هذا الإنسان القابع في السرير، الفاقد كل أنواع الاستقلالية الجسدية، ولكن الأخطر العقلية والذهنية فهو لا يقوى على اتخاذ أي قرار بمفرده حتى وضعيّة يده على صدره، أو على بطنه. 

ثم أردف قائلاً:  "هذا الرجل وليّ نعمتي وبفضله ربيت أبنائي ولا يمكنني تركه ابداً، لكنني وددّت لو اقول له: ليتك علمته كيفية تربية الاولاد يا عم سامي".

لن أطيل عليكم سرد تفاصيل المعاينة، ولكن استوقفني مشهد حين سالت الممرضات هل يستطيع البلع، فحاولت أمامي:

Siiiir ..... قومي Siiir….

Open your mousss Sir

Yalla , Yalla

Doctor don’t have time to wait

وبصوت أعلى Siiiir Yalla

فرجوتها التوقف. فلم أعد أستطيع تحمّل المزيد من الإذلال لهذا الرجل. 

وحين سألتها إذا كانت لديه عقور سريريّة، رفعت الشرشف فظهر فخذاه الهزيلان والحفاض الواقي... لبست الممرضة قفازين، وقلبت معاليه على جنبه لأعاين موضع الاحمرار والتجلطات. 

لن أطيل السرد، فالواقع فظيع إلى حدّ السواد القاتم. 

خرجت من منزل معاليه وأفكاري متضاربة تجاه هذا الرجل الذي كان قاسياً متعجرفاً إلى حد الإجرام، الذي لا يعلم أحد كيف جمع ثرواته حين كان في عزّه، والذي تحوّل بقدرة قادر إلى أدنى من أدنى عامل كان يخدمه. 

كنت أودّ لو استطيع أن أصوره بالفيديو، ليس شماتة لا سمح الله، بل ليشاهد الجميع ذلك الجبل المارد كيف تحوّل إلى لا شيء بلحظة، علّه يكون عبرة لمن عليه أن يعتبر. 

مرّت الشهور، وحتى اليوم لم يتصل بي ابنه ولا ابنته أو حتى زوجته، لسؤالي عن نتيجة المعاينة، وصلة الوصل بيننا بقيت فقط الحنون العمّ سامي. 

ولكن قبل أن أختم قصتي، دعوني أخبركم عن آخر نظرة رمقني بها معاليه عند خروجي من باب غرفته الصغيرة، كأنه يريد أن يقول أخبر الجميع بأنني نادم على حياتي برمّتها، على قساوتي وشراستي، على تحطيمي أعدائي، على كل قرش أخذته من دون حق، وعلى كلّ نقطة دم سالت بسببي، على كلّ طفل تيتّم بسببي، على كل زوجة ترمّلت بسبي، وأم تحطّم فؤادها على ضناها بسببي. 

كنت أحسّ بأنّه يريد أن يزيد الله أكثر بعمره، حتى يزيد عذابه لعلّه يكفّر عن الذنوب التي ارتكبتها يداه. 

ولكن، يا للأسف، يندم الزعيم وقت لا ينفع الندم. 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم