الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"دخيلكن ساعدونا"

المصدر: "النهار"
هنادي الديري
هنادي الديري https://twitter.com/Hanadieldiri
"دخيلكن ساعدونا"
"دخيلكن ساعدونا"
A+ A-

انتظرتكَ مساء أمس. بكيتُ بصمت لكي لا يسمع أحد هدير دموعي وألوان خوفي. وكلانا يعرف أنني لن أعود إلى سابق عهدي، وإن الزلزال قضى على فقاعة الأوهام التي خيّطت شراشيبها بتأنٍ هرباً من الواقع. وهذا الصُداع الذي يُرافقني ليلَ نهار، ويذكرني بأنني في الواقع متت عندما تحطّم زجاج المنزل آخذاً معه كل شيء. ويد والدي المُمتدة نحوي. وأنا ضعيفة، تائهة، أنزف من رأسي وأبحث عما تبقّى من جسدي. ووالدتي تحاول التمسّك بما تبقى من أثاث، وأنا أنادي كلبتي الصغيرة التي هي في الواقع ابنتي، و"متل ما بتعرف، ما عندي غيرها". وأمسح الدماء عن وجهي. ويد والدي الممتدة نحوي. وأنا عاجزة عن مساعدته لأنني ضعيفة وتائهة. وهذا الصوت المهيب الذي سيذكرني دوماً بأنني لن أعود إلى سابق عهدي. والجدران تعرّت من ألوانها ولوحاتها الشاعريّة. وأنا أنادي ابنتي وأتمتم "دخيلكن ساعدونا". انتظرتك وأنا أعرف سلفاً بأن حياتي تبدلت إلى الأبد. كلبتي أجابتني بنباح صغير لكي تعلمني بمكانها. كلانا ينزف. وأنا أتمتم "دخيلكن ساعدونا".

الشارع ساحة حرب. "يا مجنونة كبّي الكلبة من إيدك وروحي خلّصي حالك". لكنها ابنتي، و"ومتل ما بتعرف ما عندي غيرها". ووالدي يجلس على مدخل المبنى المتصدّع ولكنني لم أعد أعرفه. ملامحه تبدّلت كأنه غادرنا إلى مكان أفضل. ووالدتي تجلس إلى جانبه بصمت. وكلبتي ترتجف بين ذراعي. والناس يهرولون. والشوارع مزينة بالزجاج. "حدن يساعد هالمجنونة ويوقفلها النزيف". لم أعرف اسمه، ولكنه اقترب منّي وقال، "ما تخافي، أنا بساعدك". وللمرة الأولى بكيت. انهمرت دموعي وأنا أدعي له بالصحّة كأنني مسنّة اقتربت من الموت. "الله يخليك بصحتك. الله يوفقك". لم أعد أذكر كيف هربنا من المنزل. ولكنهم قالوا لي إنّ سيارتي دمرتها شجرة، ومع ذلك تصور أن جارنا الياس تمكّن من إخراجها من تحت الشجرة لينقذنا. عندما سألني إذا ما ما كنت أملك المفتاح، أجبته، "ضبّيت كتير غراض بالشنطة وقت صار الزلزال. ايه معي المفتاح". تطوّع شاب مصري ليسوق بنا إلى المستشفى. لم أذكر إلا أنني اتصلت بأشقائي وأنا أبكي، "نحن مش مناح. في شي صار. وبنتي عم بتموت". والشوارع ساحة حرب. والمستشفيات مليئة بالرعب والأجساد الممزقة. ساعات ونحن نبحث عن مستشفى يوقف نزيف الذكريات من رأسي.

افراد العائلة يحاولون إنقاذنا جميعاً. وصل ابن شقيقي زيان ليأخذ كلبتي عند الطبيب البيطري. أعتقد أننا كنا قد وصلنا إلى مستشفى مار يوسف. "دخيلك ما تضيعا وخللي الحكيم يشوفا". والناس يحدّقون بدهشة، ولكن لسبب أو لآخر رأيت في وجوههم طيف الرحمة. كأنهم أدركوا أنها ابنتي و"ما عندي غيرها". وإن هذا الزلزال دمّر حكايات صغيرة هي في الواقع كلّ شيء. وهذا الرجل المشوه الذي يصرخ في وجهي، "راسي، دخيلك راسي". وأنا أحاول أن أبعد روحي عن وجهه المشوه. وهذه السيدة التي تلتقط الصور للمشاهد الراعبة وصوت ذاك الرجل يصرخ بها، "مرتي بلا تياب ومشوهة. ما تصوري". ونحن نزور المستشفيات بحثاً عن وميض أمل. ووجهي الملطخ بالدماء والخوف.

العودة إلى ما تبقى من المنزل، الثالثة صباحاً، للبحث عن بعض أغراض نأخذها معنا إلى المبنى الذي يقطن فيه أشقائي. الظلام في كل مكان. المبنى مهجور ومسكون بالصراخ، وهذا الصوت الذي يرافقني ليلَ نهار. "يا عمتي ليش عم تاخدي كل هالغراض؟ خدي بس يالّلي عايزتين". ولكن تصور أنني أخذت معي 4 حقائب مليئة بما تبقى من أشياء حوّلتها منزلي الصغير بعدما فقدت ذكرياتي مع اندثار الدماء وتحطم اللوحات.

ويد والدي الممتدة نحوي. وصمت والدتي. ونباح كلبتي الذي أعلمني بمكانها. انتظرتك مساء أمس. بكيت بصمت لكي لا يسمع أحد ألوان خوفي. وكلانا يعرف أنني لن أعود إلى سابق عهدي. وأن "كل خبطة باب" وكل هدوء نسبي، سيذكرني بأن كل شيء انتهى وأن الدماء ستبقى على وجهي مع أنني أحاول أن أمحي آثارها بواسطة الثلج الذي وصفه لي الطبيب ليخفّف الورم. 

الشوارع ساحة حرب. ونظرة والدي فارغة. وصمت والدتي مقلق. والدماء لوّنت كلبتي البيضاء بالأحمر القاتل. "دخيلكن ساعدونا... الله يخليك بصحتك... خفت كتير يا دكتور... تعوا نهاجر على كندا... دخيلكن ساعدوني هاجر على كندا...".

انتظرتك مساء أمس. وهذا الصداع في الرأس. وهذا الهذيان. والزجاج في كل مكان. ومنزلنا الذي أمضيت سنوات في زخرفته "ع الأرض".

"يا عمتي، ساعدني ضب غراضي. دخيلك يا عمتي ما تتركني. ضب معي هالغراض. بركة ما عدنا رجعنا".

[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم