السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

أنا بريءٌ، يا حَيْفا

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
أنا بريءٌ، يا حَيْفا
أنا بريءٌ، يا حَيْفا
A+ A-

أشارتِ المرأةُ الشقْراء إلى فتًى يانِعٍ أمَامَها: "هذا ابْنُنا الأوَّل، اسْمُهُ مَردوخ، وأخوه شيكارا قَد كَبُر، وأختُهما الصّغرى شيليا، صارت مثل وَردة فاتنةٍ"، هكذا، كما لو كانتْ تُعَدّد أسماءَ الجنّ التي نَجدها في الكُتبِ الصَّفْراء. "هؤلاء أبناؤكَ تركتَهم صغارًا، منذ عشر سنواتٍ. ولم يَكن لشيليا سوى شَهرٍ واحدٍ، لمَّا أودعوكَ السجن".

كأنّني أعرفُ هذه الأمّ الشقراءَ، ذاتَ المَلامح الأوروبيّة الشرقيّة. غيرَ أنّي نَسيتُ اسمَها. لا شكَّ أنه ينتهي باللاحقة: "شسكي". لا تزال جالسةً، قُبالتي، أمام مَسبحٍ فخمٍ، فوقَ باخرة فاخرة، وهي تُلاعب أبناءَنا الشّقْرَ ذوي العيونِ الزرقاء والبَشرَة النَّاعمَة. ظللتُ واقِفًا أتأمّل حَبْلاً أصفَرَ وُضِعَ على طاولةٍ فاخرة. لم أبادر إلى"أبنائي". يَتَناهى صوتُها وهي تُعيد تلاوة هذه الأسماء الغريبة بنغٍم شعائريٍّ. أفركُ عَينَيَّ. أجدُني في غُرفتي المظلمة بِالسّجن، صحبةَ رفيقي، الكَهلَ الأسود، ينظُر إلى السّقف واجمًا.

كانت هذه المرأة مُديرَةَ مَبيت ضخمٍ للعمّال المهاجرين، يُسَمّى: Sonacotra، في تلك البناءات المربّعَة الشاهقة، كأبْراج الحَمام الوَسِخَة. أقامَتها الدولة الفرنسيّة لتحاصِرَ فيها الطبقاتِ الكادحةَ والفقيرة، وبعضًا من المُدمنين والمَرضى النفسيّين. شيَّدَتهَا في مختلف مناطق البلاد إبّان "السنوات الثلاثين المجيدة"، التي تَحقّق فيها رخاؤها الاقتصاديّ الأقوى.

التقيتُ مع هذه المديرة البولونية في مِصعَد ذلكَ المَبيت، المؤلف من عشرين طابقًا، كطوابع السكّر. كانت تَرمُقُني بنظراتٍ حادّة. ترى فيَّ مُهاجرًا إضافيًّا، مُجرمًا بِالقوّة، عنيفًا بالفعل. قلتُ لها: "بونجور"، بكلّ نفاق العَالَم المتحضِّر، حتى أثبتَ لها لِياقتي وأنّي "مندمج" تمامًا في قَوالب البلد، مُهذبٌ مثلها، أتقن شفراته الثقافيّة... هيفاء، صديقتي السوريّة كانت قُبالتي. بَعدَ لحظات مُربكةٍ، قلتُ لها: - نكايةً في البولونية- : شيري (عزيزتي)، أرجوك اقبَلي دَعْوَتي للعَشَاء، أنتِ الليلةَ ضيْفَتي". صَمَتَت هيفاء. فابتسمتُ وأعدتُ: "شيري، نذهب معًا إلى المطعم، أضَيِّفُكِ الليلة". أردتُ أن أظهرَ أنَّنا قادرون على المحبَّة، مثل غيرنا من الأوروبيين. كانت فَرنسا في تلكَ الأيام تلهج بالاتّحاد الأوروبي وتضامُن دُوَله.

قبل ذلك بأسبوعٍ، استدعتْ هذه المديرة الشّرطَة فحضرت دوريّةٌ كاملة: ضابطة وثلاثة أعوان: "ضربَ هذا المتوحّشُ السيدةَ هيفاءَ بشدّة، عَنّفَها وشوَّهَ وجهَهَا، كاد أن يُرديها قتيلةً لولا أن فرّتْ من غُرفتها. لِحُسن الحظّ، كانَ مكتبي مَفتوحًا وإلا لكانت المِسكينَة مَاتَت في بَهو المَبيت"، هكذا في تسلسلٍ من التوصيفات، تَتَعاقب في فمها ضرورةً وحتمًا. أردتُ أن أجيبَها: "كلّ ما في الأمر أنَّ صوتي ارتَفَعَ شيئًا ما لأنَّ هيفاء كانَت تُخاطبُ صديقًا إسرائيليًّا، من حَيْفا. غيْرَةٌ شرقيّة، لا أكثر ولا أقلّ. عبَّرتُ عنها كأرقى ما يُعبّر شرقيٌّ عن غَضَبه: رَفعٌ في النبرة وبعض الهَيَجان الداخلي، مع عِتاب بَريء". لم يُقنِعني هذا الكلامُ فلم أنطقْ به. اكتفيتُ بالقول: "هذه مَسائِل شخصيّة. سَنَتفاهم فيما بَينَنا"، حاولتُ اللعِبَ عَلى وَتَر الحياة الخاصّة. أعلمُ أنهم يقدّسونَها أكثرَ من الأرض والزَّياتين ومن زغاريد الأمهات.

لكنْ، لم يُقنِعهم كلامي. طَلبوا منّي مرافقتهم إلى مركز شرطةِ الدائرةِ الثالثةَ عشرَ بباريس. كأنّهم ضَجروا من فترة ما بعد الظهر، دون قضايا مثيرة. تعَوّدوا على هذا المَبيت ومَشاكله والمديرة ومكالماتها. سبَقَ وأن تلقَّتْ تهديداتٍ بالموت من بعض المُقيمين. الكلُّ يَكرهها ويترصّدُ بها الدوائرَ. عندما وصلتْ الدوريّة، قبلَ دقائق، كنتُ مع هيفاءَ واجِمَيْن في مَكتَبها. أترجّاها بعُيوني. تعلمُ أنّني قدّمتُ طَلبًا للحُصول على بطاقة إقامة دائمة بأوروبا. أيّة متاعب مع القضاء تُفشل كلّ مَساعيَّ. أخيرًا، همستُ بالعربية حتى لا يفهمَنَا أحد: "البِطاقَة، يا هيفاء !". أخفوا ضحكاتِهِم المَكتومَة. كلّ هذه التعبئة والمصاريف من أجل صيْحة عربيّ في وجه عربِيّة، فَليَذهَبَا إلى الجحيم وليشوّهْ وَجهَها، حتى البولونية فليقتلوها! اقتادوني إلى سيّارتهم: "أنتَ مَحظوظ! لن نَضعَ في يَدَيْك الكلبشات، لكن لا بدّ من الاستماع إلى إفادتك. وفي حالة رفْعها دعوًى ضدَّكَ، لا بد من المثول لدى قاضي التحقيق. هذا هو القانون".

سيدي القاضي: "استدعتْ مُديرةُ المبيت الشرطةَ لمجرّد ظنٍّ. حرّكَتها صورٌعن العَرَب طالما شاهَدَتْها في الإعلام. اتَّهَمَتْني بما تَراه في وسائله. فجَّر مشهد هيفاء الواجمة حِقدًا دفينًا. تظنّ أنها بالضّرورة مَظلومَة ومُعنَّفة. أمثُلُ أمامَكم، سيادةَ الرئيس، لا لشيء سوى لأنَّ المديرة استعادت صور الإعلام. أنا بَريء. لم أعَنِّف هيفاءَ". كنتُ أودُّ أن أقول للقاضي هذه الكلمات، لكن خَذَلتني الفرنسيّة ولم تُسعفني بكلمةٍ واحدة منها. اكتفيتُ أمامه بابتسامة صفراء، عَريضة منافقة واقتصرتُ على قول: "مَعَكم حق سيّدي. الرجل المتحضّر يَتَحَكَّم في أعْصابه!". أطلَقوا سراحي بعد سُويْعَة، بعدَ أن أخذوا إفادتي عن الأحداث. رأيتُ القاضي يَكتم ضحكاتِه. القصّة وما فيها سخيفة. ربّما يَضحك من نفسه ومن عبثِ ملاحقاته.

عشيةَ ذلك اليوم، واجهتُ هيفاء، بعد أن تحكّمتُ في أعصابي: "أنتِ جاسوسة تعملين لصالح دَولَتك. اكتشفتُ أنّ المخابرات هي مَن أرسلكِ في مهمَّة سرّية بباريس للتجسس على الطّلبة الوافدين من بلدان المشرق العربي، سواءً المتعاطفين مع القضيّة الفلسطينيّة أو المناوئين لها. كان "غِطاؤك" تسجيلاً في الجامعة. طلبتِ منّي بلطفٍ أن أساعدكِ على إتمامه. مثلَ أحمق، دَبَّرت لك تسجيلا في أرقى الجامعات الفرنسيّة بعدَ أن طُفتُ معك أرجاءَ الإدارات المُتَبرّمة من رؤية هؤلاء الطلبة العرب يكتسحون أروقتَهم العتيدة. تحمّلتُ كلّ ذلكَ لإحساسي بواجب التضامن بين المشرق والمغرب. لكنْ رأيتُ وثائقَكِ بأمّ عَيني.

أذكرُ كيف كانت تأتيك اتّصالاتٌ مُريبةُ من القَصر الرئاسيّ مباشرةً. كنتِ أحيانًا تبرّرين عنفَ الجيش الإسرائيلي. لا تَرَيْن فيه غضاضةً. كان منكِ تناقضًا صارخًا. وضعتُه على حسابِ الانفتاح وتقبَّلتُ رأيكِ برحابة صدرٍ. كان أبوك يُرسل لك الحلوى والمملحات الشرقيّة اللذيذة. تَحرمينني منها وتُرسِلينَ بعضَها إلى مديرة المبيت البولونية. تقولين: أعرِّفُها على فنّ الطبخ العربي. تَتَعاملانِ معًا. مَلفَّات المُبتَعثينَ والحَلوى".

عادَ أفرادٌ من الشرطة إلى المبيت، بعد يومَيْن من لقاء المصعد. كانوا مُدجَّجين بِالسّلاح. أكّدَت لهم المديرة: "هو فَردٌ خطيرٌ، بين الجُنون والكراهيّة وقد يَمرّ للقَتْل في أي لحظة". هاجَموا غُرفتي في الطابق العَاشر. وجدوا في يَديَّ حَبْلاً أصفَرَ، كنتُ أقلّبُهُ. اقتادوني إلى سيّارة مصفَّحة بعد أن وَضعوا القيودَ في يديَّ وشَدّوهما إلى خَلف. أجلسوني على مقعد حديديّ وانطلقت السيّارة تخترق شوارع الدائرة الثالثة عشر بباريس وهي تزمّر. كأني أسمع الشرطيين الثلاثة يَتَضاحكون ويتهامسون: عربيّ ينضاف إلى السجون.

صباح ذلك اليوم، هاتفتْ هيفاء صَديقَها الإسرائيلي في حَيْفا. كم أغْضَبَتني حين نَطَقَت الحاءَ خاءً، على طريقتهم: خَيْفا. كانت حَيفا، وقد نطقتها بالخاء، نقطة النهاية، اللا-عودة. هدَّتْني هَدًّا. عَلَّقَتْني زغاريد الأمهات في قُراها. لا أحتاج من أجلها إلى جريمة. تُهمتهم جاهزة دائمًا. يا هيفاء، أنت العربية، تَنطقينَ: خيفا؟ عُلّقْتُ بينَ الجنَّة والنّار. "أيها السادة، من فَضلكم، لا تغيّروا أسماءَ المدن والقرى، ولا تلعبوا على فوارق النطق. اتركوا للأماكن بهجتَها ودَعوا الأسماءَ تَدورُ، كما دارَتْ لقُرون" حَلمتُ أن ألقيَ هذا الخطاب الموجَزَ في منصّة الأمم المتّحدة.

واشتَعَلَ غضبي أكثر عندما اكتشفتُ أنّ هذا الصديق الإسرائيلي زار هيفاء بباريس قبل أيامٍ. لم تخبرني بذلك. لكني رأيتُ على طاولتها، في غرفتها، بعض الأغورات. أهداها إياها تذكارًا. تصرُّف في غاية الرقيّ.

صمّمتُ على الهدوء. قرّرتُ أن أظل متحضّرًا وراقيًا، كما يَودّون. لن أهديهم فرصة الشماتة فيَّ، ولا حتى بهجة القول: أرأيتم؟ كم أكَّدْنا لَكم أنَّهم لا يَنصَلحونَ". بل وَددتُ لو دَعوتَها وصديقَهَا الحيفاويّ إلى مطعمٍ فاخر، قبالة مركز شرطة الدائرة الثالثَةَ عَشَرَ على أمل أن تراني هناك الضابطة أتعشّى مع ضيوفي على أنغام إحدى روائع أزنافور. ستتأكد وقتها من اندماجي التّام. ولم لا أدعو مديرَةَ المبيت أيضًا. ستكون حفلةً بهيجة بين فُنون الطبخ.

في باطني البعيد، كنت أحلمُ بالزّواج من تلك البولونية، فَقَط لأنجبَ منها أولادًا شُقرًا، نكايةً في بَشرَتي السّمْراء وشعري الأجعد، وفي هذه اللحية التي تَنبتُ بالرغم منّي. أحلقها فقط لأنّها تتواطأ ضدّي. تُوحي بالعُنف حين تغطيّ وجهي الأسمر، ولو ليوميْن دون حلاقة. يعلّق جاري مازحًا: "أصبحتَ فدائيًّا، ستقاتل في فَلسطين؟ أنتَ فدائيّ؟". كانت قطعةُ الحَبل التي أقلّبُها تذكارَ فلاّحٍ فلسطينيّ، أهداني إياها يومَ التَقيْنا على باخرة تَعبُر المُتوسِّط. أعلمني أنه كان يَستَخدِمه في جَنْي الزيتون بِحَقْله... في حَيفا.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم