قصة قصيرة: ذكريات

مرفت السيد أحمد عبد الحميد - مصر

في قرية منسية لم تصلها الحداثة بعد، كنت كالمدفون في تلك المرتبة الإسفنجية الرخوة، أصارع الأرق كعادتي، رأسي ينفجر، نوبة صداع أخرى اجتاحت رأسي، حاولت السيطرة، ملّت ذكرياتي، تركتني وهربت في أزقة هذا البلد الصغير، حتى وصلت إلى البيت القديم، رأيت أبي فرِحاً يضحك لي. كان في ذلك اليوم له جناحان يحلق بهما كحسون يغرد في الربيع، كل شيء جميل حتى الأزهار البلاستيكية التي تتزين بها الطاولة أستنشق لها عبيراً، يستقبل المباركات من الأهل والأصدقاء، كان ذلك اليوم يوم نجاحي في الثانوية العامة.

مازلتُ في البيت القديم.... وقعت عيناي على الغرفة الكبيرة، تذكرت ذلك اليوم الذي فارق أبي فيه الحياة بعد عام واحد من دخولي كلية الهندسة لأحمل أطنان أحزان قادرة على نسف العالم، مرت حياتي رتيبة مثل كل البشر!!!

ثقيلة هي الذكريات الأليمة كشاحنة عملاقة تمر على صدرك!

تململت في فراشي، ضغطت بيدي على رأسي، ازدادت نوبة الصداع أكثر...

أغمضت عيني ثانية... علَّني أقاوم ذلك المسلسل الرتيب الذي آراه كل ليلة.

للحظة تذكرت نفسي أيضاً يوم انتبهت إلى العالم من حولي وهو يحكي قصته الزائفة، قصة الولاء للأرض والولاء للحاكم، مرة باسم الدين ومرة باسم الوطنية، يحاولون التفرقة بين أبناء الأمة لخدمة الفاسدين والقتلة، يوم قررت أن أحمل على عاتقي هموم الوطن، يوم حاولت أن أزيح غطاء الجهل عن بلدي.

خُضْتُ حرباً لم ينطفئ سعارها ضد عبيد المال والسلطة والمناصب والشهوات ضد أنظمة قوّضت حياتنا.

دقات قلبي تتصارع، ستفتك بي الذكريات توالت واحدة تلو الأخرى.

ومع إعلان العصافير عن بزوغ النهار... أعتدل وأنظر إلى النافذة لأتذكر اليوم الذي انتصرت فيه الثورة على الطاغوت وكم كانت فرحتنا، "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" . وقت الانتصار فقط يتكدس الأعداء في فنائك، وتزداد المواعظ، ويعلو الصياح، يرجُمك الصنم وعابدوه، ويجبرونك على ترك بلادك... بلادي التي تختزل الحقيقة تختزل الحياة في رغيف خبز.

طريق الغربة سكة في الخيال ولكن لا بد منه، بلادي أصبحت سجناً مظلماً لابد أن أنجو.

أمي تطلب مني التوقف... نظرت إليها ولم أتكلم، يبدو أنها استسلمت، كانت أصابعها تتحرك بشكل لاإرادي، كأنها تضرب على أوتار خفية لحناً حزيناً من الرعشة والخوف لم يسمعه أحد... بدت في عيني دمعة اللقاء المجهول...

زوجتي تئن كقطة جريحة... أردت أن أتكلم لكن تتمخض الحروف في فمي فلا تنجب إلا كلمات مشوهة غير مفهومة... وأخيراً ابتلعت كلماتي وذهبت.

تذكرت أيضاً يوم عدتُ إلي وطني وأردت رؤية أصدقائي، الأشخاص هم الأشخاص كل منهم يلبس عباءة المُصلح والعالِم والسياسي والمُحلل الإقتصادي، أحاديثهم صارت مملة برغم أنها في السابق كانت كالكرة يتناوبون ركلها.

أردت أن أُسكتَهم، لا شيء سوى دعوتهم إلى الطعام قادرة على ذلك، ظل الجميع يهضم طعامه، ووجعي يهضم جمجمتي من الخذلان... رجوعي إلي أصدقائي صار حلماً آخر في غياهب ذاكرتي المعتمة. فقد أصبحوا كقطيع أغنام بائس، تحركهم شاشة تلفاز.

هاااا أنا أودع أحلامي؛ واحداً تلو الآخر بقلب فاقد

الشغف، قلب مُسِن يتحرك بحرص، ينظر إلى وطنه وهو يرقد في مثواه الأخير، من خلف الشاشة الزرقاء.

لازلتُ في معركتي مع الأرق، ومن الواضح أني لن أنام...

المحارب الآن مختلف يتعامل مع واقعه بصمت جياش، بصمت المترقب، كجندي ينتظر أوامر قائده، ولكن لم تأت أية أوامر، انتهى زمن الجهاد منذ عهد الصحابة، فقط تسلم خطاب تسريح من الخدمة.

أنسحب من الحياة غير آسف فهو قدم ما يرضيه، ويعلم أن الشرفاء هم الباقون.

اقترب عقد الذكريات المنفرط يوقع آخر حباته، تكوم على نفسه وانزوى في ركن الغرفة ينظر إلى النافذة يرى أول شعاع للشمس يدخل لعله ينير عتمته أو ضبابه المستمر.