السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

بيروت لن تموت

الدكتور علي خشان- وزير العدل الفلسطيني الأسبق
بيروت لن تموت
بيروت لن تموت
A+ A-

رغم حجم الدمار الذي أصاب مبانيها التاريخية والمساجد والكنائس والمسارح وكل مكان جميل فيها، رغم الخراب بكل مكان تشتاق له الروح، ستبقى بيروت ذاكرة كل عربي وأجنبي، مسيحي ومسلم، ستبقى بيروت المحبة والتلاقي مدينة السلام ولن تموت.

هزّها انفجار الإهمال، انفجار الفساد، انفجار الظلم، انفجار السياسة، لكن لن يقتلعها، وستبقى. ستعود بيروت وتنتفض من جديد رغم الأرواح الزكية الطاهرة التي سقطت، لم يكتفوا بما حصل لبيروت وما مرت به من ذكريات، جميلة وحزينة، وأرادوا اقتلاع الذاكرة وعبق التاريخ ورائحة المحبة، أرادوا أن يُسكتوا ترانيم السلام من الكنائس وكتم أصوات الأذان من المساجد، أرادوا دفن ذاكرة الشهداء من أعلام الفكر والأدب ورواد الصحافة الذين تزين أسماؤهم وأقوالهم سماء بيروت وشوارع بيروت وضمير بيروت الباقي مع ذكراهم العطرة.

بيروت لن تموت، هي صوت لبنان النابض رغم الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية المعقدة والمتشابكة، ورغم أزمة انفجار الميناء لا يزال في شواطئ الأمل مأوى ومستقراً لمن يحب لبنان.

لم تعد السفن تعبر مرفأ بيروت مطلقة صفاراتها، أوقفها وأسكتها الانفجار، لتفجِّر بيروت آلاف الحكايا وتلون السماء بقوس قزح لبناني يظهر صور وأرواح الشهداء الذين مروا من ميناء بيروت ولم يمروا من ذاكرتها.

بقيت صورهم وأرواحهم معلقة في السماء تسلّم على الآمنين وتشحذ هممهم للصمود والبقاء، وتلعن كل القتلة والمجرمين والمتواطئين والمهملين.

ورغم الجراح والأنين ستنهض وتعود بيروت لرسم البسمة من جديد على شفاه المحبين، وترسم بنظرتها مستقبل لبنان الواعد المشرق، تنهض بيروت عاصمة الثقافة والفكر والأدب، لن يثنيها انفجارمجنون بكل المقاييس من إكمال رسالة من سقطوا شهداء الوطن والفكرة والمبدأ كما لم تؤثر فيها من قبل نيران الحرب المجنونة التي يطلقها في كل مرة أعداء الفكر والإنسانية.

تنهض بيروت ثانية كما تفعلها في كل مرة؛ وبمواجهة كل فاجعة تداوي جراحها بيدها الطاهرة وتمسح دموع الحزن من مقلة العابدين، وتتطلع نحو مستقبل مشرق كعادتها وهي تنتظر الأحبة وتفتح ذراعيها للعاشقين لها القادمين من كل حدب وصوب من أقصى المعمورة وأدناها، تغمرهم بالمحبة والشوق والحنين.

وتقول لهم كما يقول الشاعر المرحوم توفيق زياد:

أناديكم، أشد على أياديكم... وتهتف تناديهم لمشاركة حلمها نحو الازدهار وحمل شعلة الثقافة والفكر واستعادة ذاكرتها المتجددة التي لا تموت

ويرتفع الصوت مجدداً يشدو

أناديكم أشد على أياديكم وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول: أفديكم.

بيروت منذ الولادة تعيش المخاض ولن يهزها انفجار أو انفجارين. بيروت في كل مرة كطائر الفينيق تنتفض من بين الدمار والنار والغبار والأنقاض وتتفقد حليّ ذاكرتها الجميلة، بيروت الجميلة تتلمس جسدها وكأنها في ليلة زفاف والناس من حولها يطيّبون خاطرها إلا من استغلها وباعها وتآمر عليها وفجّرها. بيروت لن تنكسر رغم الكسور، فظهرها يستمد قوته من جبل لبنان الشامخ القوي، بيروت عزيزة النفس وستبقى، بيروت شامخة ومرفوعة الرأس ستبقى.

أكثر ما يؤلم بيروت مافيا الفساد فيها، المجرمون ضد الانسانية المصطفون في طابور أعدائها، المتربصون بها وليس من ضمن حراسها وأحبتها .

بيروت تعيش فيروس الكورونا وفيروس الفساد والبيروقراطية، كلها قاتلة ولا تستوجب الانتظار.

يستكثرون عليها الأمن والأمان والفكر والحرية، صهاينة في فلسطين المحتلة يصبون نيرانهم ويتمنون لها الدمار وينظرون إليها من جنوب الجنوب، وأعضاء كثر من الداخل والخارج يحاربون فيها الايمان والحرية والثقة بالنفس، يحاربون قوس قزح وأهازيج السلام وبياض جبالها وخُضرة سهولها وعذوبة أهلها كما ماء لبنان الصافي.

تنهض بيروت من كل انفجار، ومع كل انفجار نهضت وتكلمت بالرفق بعد رفيق، ونهضت جابرة للخواطر والجراح بعد جبران، ونهضت بعد اغتيال قصير، ونهضت مع آلاف الشهداء والجرحى والمعذبين، وتنهض في كل مرة تمتد فيها يد الإجرام لتسفك الدم البريء.

بيروت، وبقلم شاعرنا الراحل توفيق زياد، أهديها ضيا عينيّ، ودفء القلب أعطيها،

فمأساتي التي أحيا نصيبي من مآسيها،

يحبها الجميع... من لم تطأ قدمه أرضها، ومن زارها وعاش فيها وتنفس هواءها النقي إلا من فساد الفاسدين ومن دخان المتاجرين.

حب بيروت في هذه الأيام عمل انتحاري ولكن الناس أصبحوا في حبها فدائيين.

من لا يحب بيروت فهو كافر بالانسانية، ومن لا يحب بيروت لا يعرف الحب طريقاً لقلبه.

لكل منا في بيروت ذاكرة وعبرة وقصة لن ينهيها حقد ولن يوقفها انفجار، فبيروت فوق رسم الحقد وفوق الدمار وسوف نستمر في حب بيروت القاتل.

بيروت التي بكّتها قلوب الغرب وعيون الشرق! بيروت التي بكاها المثقّفون والفنّانون ومحبّو الحياة من كلّ حدب وصوب، تعيش ذاكرتها اليتم ويعيش شعبها الفقر ويعيش ساستها الضياع.

تصدعت مباني بيروت من عفن الفساد والإهمال القابع في مكاتبها، من عدو يتربص بها كلما أرادت أن تنظم قصيدة أو تخرج من البحر لؤلؤة تهديها لعوائل الشهداء والمنكوبين، أو مركباً يتحرى خطوط السلام مع شعوب العالم لتغرق المركب وتدمر الميناء والمرفأ لكي لا تصل رسالة السلام وتبقى المدينة جريحة مستنزفة.

بدون بيروت لن يكون هناك عرب ولن يكون هناك وطن، هذه الأميرة الصغيرة المتمردة لم تهزمها الامبراطوريات ولا الجيوش وما زال تاريخها شاهداً على حصارها وجوع أهلها ولن يستطيع عدو هزيمتها من خارجها أو داخلها.

خير بيروت يشبع أهلها وذوي القربى، لكن لا تنهبوها، بيروت التي أضاءت العالم لم تنطفئ ولن تنطفئ، قناديلها ستبقى مناراتها تضيء للتائهين واللاجئين في أعالي البحار، تمد يديها لهم وتعلّم العالم من جديد أبجديات كتابة حروف المحبة والسلام، وتضيء للعالم أجمع فوانيس الحرية، وتشعل نارالتمرّد والإباء من جديد كما لم تكن، وتعلّم العالم معنى العزة والأنفة والتحرر.

بيروت ليست يتيمة ولن تكون... مكلومة نعم، حزينة نعم، لكنها أبيّة وستبقى عنيدة، وستبقى تعلّم العالم معنى الشهامة ومعاني الإباء.

بيروت أسقطت كل أوراق التوت عن الفاسدين فيها وفي دول الجوار وهي تريد الحقيقة، تريد كشف أقنعة الزيف عن جميع المتورطين، ليس عن هذا الانفجار فقط بل كل القتلة الذين سفكوا دماء أحرارها وكتّابها ومثقفيها ومناضليها من أعداء الداخل والخارج.

يجب استخلاص العبر من هذا الانفجار في تغيير سياسي واجتماعي واقتصادي يطاول لبنان بأكملة ويعمل على إيجاد هزة قوية في أركان النظام السياسي في لبنان.

وبعيداً من كل الروايات الرسمية وغير الرسمية والتصريحات السياسية والفنية عن السبب والفاعل، خارجياً كان أم داخلياً، قصفاً أو إهمالاً، فإن بيروت تريد الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، فهل من مجيب؟

الدكتور علي خشان ـ العدل الفلسطيني الأسبق

[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم