انفجار المرفأ بعد 48 ساعة... كيف نجونا وقد تدمّر كلّ شيء؟

بعد 48 ساعة، تتحلّى الفجيعة بشيء من الصبر. في الدماغ زوايا خاصة بالمصائب، تحلُّ، فيتجمّد، لطفاً بنا، العقل. هذا التجمُّد من النوع الذي يستفيق لاحقاً، فيُلحق في المرء أضعاف الأذى. نُرجئ التصدّع إلى وقت آخر ونتعامل مع ما حدث بشيء من الانفعال الواقع في الوسط، ما بين النكران والانهيار، له تردّداته النفسية، يُقوّي في الظاهر، ويُفتّت في الأعماق. ثم نستفيق بعد يومين وقد تكثّفت الوهلة، أو تخزّنت في النفس والجسد، بعدما شكّلت لحظات اقتحام مؤلمة، كوخز إبر في كلّ الأنحاء، أو كاختراق غير مُحبّب للشرّ والسوء، مصدره الخارج النجس، واتّجاهه نحو الداخل الإنساني المُثقل بالخيبات، فيضرب ويُخلخل ويُصدِّع ولا يُبقي نَفَساً من دون آهات.

الوقت، مُساعد وغدّار. يُعذّب ويُرمّم. ولأحزان النفس نوافذ تنتظر النور للسكينة والشفاء. كلّما تذكّرتُ، يتسارع الخفقان. أشعر بالارتجاف وبشيء في اليد يشلّها. كأنّني ولادة جديدة، مع فارق أنّ الانسلاخ مع اللحظة لا يزال مؤجّلاً، أو ربما غير وارد بعد، فيغدو الإحساس بـ"الولادة الجديدة" موجعاً، كذنب، وإن كان رجاءً ونعمة وعطاءً من الله، هائلاً بحجم الحياة. 

الوقت إذاً، وترف الشفاء. يُطبّب على مهل ويداوي من دون استئذان. صعب أن يحلّ موعد النوم على رأس بوزن جبال، يتكئ على المخدّة كأنْ يعاقبها على الحِمْل ويُلقي عليها، بلا ذنب، الهمّ والأثقال. أغمض عينيّ على تلك الصورة في تلك اللحظة. أطلّ موريس متّى من خلف المكتب ليبعث لي بصور من احتراق المرفأ لنشرها في موقع "النهار". كان "الواتساب" الأخير قبل أن يقول "باي"، وأردّ عليه الـ"باي". هي ثوانٍ، وطار الزجاج. هنا، ينسلخ العقل عن باقي الجسد ويتجمّد الإدراك، فنهرع بلا وُجهة، تاركين كلّ شيء؛ الهاتف، مفتاح السيارة، الحقيبة، كلّ شيء. المهم، أن نحاول النجاة. صراخ وركض حتى خارت القوى واستحال الوقوف على قدمين تتصلان مباشرة بالدماغ المُجمَّد، فتتوقفان عن الاستجابة وتنهاران. الصوت هائل، حاولتُ إسكاته بصرخة بحَّت الحنجرة وتسبّبت بوجع لا يزال يعنّ إلى الآن. ارتميتُ وزميل تحت أحد المكاتب كأنّني بذلك أحتمي من الموت أو أختبئ منه، أو ألعّبه "الغميضة" فلا يراني أو يعرف بوجودي، من دون أي تفكير باحتمال أن يتداعى الطابق عليَّ وعلى المكتب. "بلوك" تام. راح الصراخ يخرج مني كأنّه احتضار، كوسيلة الدفاع الوحيدة في وجه نهايات من هذا الشكل. في تلك اللحظة، تراءى لي أنّني لن أخرج حيّة. طلبتُ من الله الغفران. توقّف الوقت. إلى أن سمعتُ زميلاً يصرخ في وجهي لأتحرّك وأتبعه للخروج من الدرج. كلّنا دماء. كلّنا مشاريع موتى، نهرع، لربما بقينا أحياء. هل نحن أحياء؟

لا يهمّ الدماء وهي يسيل من جسد روحه نازفة كروحي، موجوعة نيابة عن كلّ مَن يتوجّع. تُداوى في أول صيدلية (وإن طرقنا صيدليات بيروت تقريباً بحثاً عن إبرة كزاز ولم نجد إلا في واحدة) وتُطبّب بعد أيام. لا تهمّ الضربة ولا الرضوض ولا السقوط من أعلى الدرج إلى أسفله مع زميل شهم، حملني بعدما خانتني قدماي، فاضطررتُ خجلاً وحياء، إلى شدّ النفس والوقوف مجدداً لنزول باقي الطبقات بالاعتماد على ما تبقّى من رمق، بعد تعطُّل الأسونسورات. هيّنة والله العظيم. القدم تُشفى والظهر يُشفى واليد بخير. دعكم من الداخل، فمسألته طويلة. هناك قماشة من الألم تُرافق المرء كالثوب. تلتصق به كما يفعل فصل الصيف في الأبدان المتعرّقة. أو كما تفعل جمرة باللحم البشريّ، تُعلّم إلى الأبد. أتساءل كيف نجونا بعدما تدمّر كلّ شيء؟ كيف حلَّت رحمة الله بهذه العظمة وهذا السموّ؟ وهل البقاء أحياء هو حقاً نجاة؟ ماذا عنّا؟ عن أرواحنا المنكوبة وجراحنا الداخلية الملتهبة؟ هل التنفُّس يعني أنّنا نستحقّ الأيام؟ وهل المشي يوازي جدوى الخطوات؟ فظّة الأسئلة. نجونا وانتهى الأمر. ومن ركام "النهار" نعلن الصمود، وإن اهترأت الأعصاب وكانت الكلفة بأسرها باهظة.

لا تجوز المكابرة طوال الوقت. ولا عضّ النفْس وخنق أصواتها. الانفجارات ليست ما يحدث دائماً في الخارج. هي في دواخلنا أيضاً، ولا ينفع على الدوام إسكات الأنّات. لا بأس، هذه المرّة، إعلان الألم. والقول إنّنا، برغم النجاة، لسنا بخير. ليس هذا نكراناً لفضل الله، ولا تعالياً على الفرص الثانية، لكنه صدق الشعور والرغبة في بكاء كشلال، لا يعرف غير التدفّق. لسنا بخير لأنّ بيروت ليست بخير. لأنّ لبنان يُشبه جهنّم، وشعارات النهوض لا تكون موفّقة في كل ظرف. نلملم ما تبقّى، فالشظايا غائرة، في التجاويف وطبقات الروح. كثير على إنسان التحمُّل دائماً. الحمدُ لله.

fatima.abdallah@annahar.com.lb

Twitter: @abdallah_fatima