أينشتاين وجنون الهوية

رامي زيدان

كان الشاعر اللبناني سعيد عقل يحب أن ينسب الكثير من العباقرة العالميين إلى الهوية اللبنانية، الى درجة أنه دعا، على رغم موقفه المتشدد من الفلسطينيين، إلى تجنيس وديعة جرار، أستاذة الدبكة في مهرجانات بعلبك لكي تكون لبنانية في حال موتها. كان ذلك شكلاً من أشكال الهذيان الهوياتي والقومي. يثير السخرية والتهكم أن بعض "المثقفين" والطوائف والجماعات يتصارعون من أجل أن يثبتوا أن هوية هذا العبقري أو ذاك، تعود إلى جيناتهم، فيستغل هؤلاء مذهب الأديب اللامع أو الفنان المشهور للدلالة على عظمة "الأمة" وحسن نسلها وأصلها، وهذا يتجلى في كواليس الثقافة اللبنانية والعربية والاسلامية القائمة على العشائرية والعصبية. اذ يعتبر بعضهم أن ثمة طوائف لديها القدرة على انتاج شعراء أو كتّاب أو فنانين أكثر من غيرها. هذا الحكم فيه بعض من الحقيقة، ولكن فيه أيضا الكثير من التسرع والإعتباطية والعنصرية والجنون الذاتي. في هذا الإطار، وعلى سبيل المثل، تُنسب إلى الشاعر أبي الطيب المتنبي هويات متناقضة وفصامية، بين من يقول إنه قرمطي ودرزي ومسلم وكيساني وشيعي وزنديق ومدعي نبوة. كل ملّة تريد أن تجعل من "ايقونة" الشاعر الكبير علامتها الحضارية، كأن الشعر مصدره الدين أو الطوائف. تلك هي مهزلة الهويات والولاءات في التقسيم الثقافي وتصنيف اقطاب التراث العربي من أبي الفرج الاصفهاني الى أبي نواس وابي العلاء المعري وصولا حتى إلى مي زيادة وفيروز.
نصل الى بيت القصيد. من الطريف أن بعض أتباع الأديان التوحيدية يتنازعون في عقيدة عالم الفيزياء وصاحب نظرية النسبية، الأميركي ذي الأصول اليهودية الألمانية أينشتاين. فاليهود يعتزون به وبعبقريته، وهو عندهم يهودي بحكم ولادته، ويدعي بعض المسيحيين أنه مسيحي. لكن الأكثر طرافة أن كثيرا من المواقع الشيعية ووكالات الأنباء الإيرانية تزعم أن هناك مراسلات سرية بين أينشتاين وآية الله البروجردي، أشاد فيها أينشتاين بالإسلام والمذهب الشيعي الإثني عشري! زاد من وتيرة هذه التصريحات إعلان آية الله مهدوي كني، رئيس مجلس خبراء القيادة الإيراني، أن أينشتاين اعتنق الإسلام الشيعي ويحب "الإمام جعفر الصادق"، فأثار كلامه زوبعة في وسائل الإعلام الإيرانية على مواقع التواصل الاجتماعي، واستدعى سخرية بعضهم الذين قالوا إن اسم أينشتاين الحقيقي "آية الله ألبرت أينشتاين أكبر فيزيائي".
لا شك أن الحكي عن "طائفة" أينشتاين وعقيدته يأتي في سياق الهذيان الغيبي والديني والعصبي وجنون العظمة. فسواء أكان شيعياً أم بوذياً أم ملحداً، فهذا لا يغيّر في المعادلة شيئاً، ولا يبدل من جوهر النظرية النسبية ولا الفيزياء. معتقدات العلماء والأدباء والفنانين من الأمور البديهية والثانوية وربما الساذجة في الحياة، لكن المعضلة ان البعض يستعملها بمثابة كليشيهات وبروباغندا يثار حولها الضجيج وتكون ثمرتها جعجعة بلا طحين، وربما يقتصر دورها على ارضاء نرجسية الهويات وتكبّر اصحابها. لا عجب أن يقال إن اينشتاين تشيع طالما أن بعض الخمينيين يسمّون أنفسهم "حزب الله" ويعتبرون انتصاراتهم إلهية. كلام المرجع الديني الإيراني عن تشيع أينشتاين، يذكّرنا بكلام الشيخ "الأخواني" المقيم في قطر، يوسف القرضاوي، حين قال إنّ كارل ماركس مدح الإسلام في آخر حياته، وإنّه تراجع عن قوله "الدين أفيون الشعوب". ونسب القرضاوي "إسلام" ماركس المتأخّر إلى الدكتور رشدي فكّار من دون أن يذكر مصدره بدقّة، معوّلاً على عدالة فكّار، وصحّة النقل عنه. ما يستدل من حديث المرجع الايراني الشيعي والمرجع الاخواني السني، هي "النرجسية الدينية" والادعاء بصوابها المطلق. فالزعم بولاء ماركس للاسلام وولاء أينشتاين لفرقة من الاسلام، هو في جانب منه دعوة للآخرين للتمثل بهما، على غرار الدعوات التبشيرية التي تتخذ من بعض المشاهير سنداً لها أو "ماركتينغ" إيمانياً.
ليست القضية الجوهرية في أن يكون أينشتاين يهودياً أو شيعياً أو منتمياً إلى أي دين آخر، ولا حتى أن يكون ماركس "مسلما" (علماً أنه رفض ان يصنَّف كملحد)، بل القضية الأساس أن بعض الملالي يحاولون المزج والخلط بين المعتقدات الدينية وما ينجزه العلم من "معجزات" و"خوارق"، ويحاول بعض رجال الدين وضع كل اكتشاف علمي حديث في خانة أنه ورد في القرآن، سواء أكان الاكتشاف بيولوجياً أم جيولوجياً أم طبياً أم الكترونياً. تضج المكتبات "الشعبوية" والبسطات عادةً بالكتب والمؤلفات التي تمزج بطريقة تعسفية خرافية بين العلم والدين، أو تردّ كل ما علمي حسي الى ما هو غيبي وديني. في إيران يحضر الغيب المهدوي في وجدان بعضهم كأنه علم من نوع خاص، فيصير المرء أمام صورة هذيانية يصعب تصديقها أو معرفة أسباب بروزها، كأننا في فيلم سينمائي عن كائنات غير مرئية تسقط من السماء. هل تذكرون تصريحات وزير الاتصالات وتقنية المعلومات الإيراني، اللواء محمد حسن نامي، حين وعد باستخدام شبكة الإنترنت لبث صوت "المهدي المنتظر" وصورته، وهو الإمام الذي يبشر به المذهب الشيعي. وكتبت الصحافية الإيرانية، نيوشا صارمي، على موقع "روز أونلاين" "بلغت الضجة التي أثارتها هذه التصريحات درجة أرغمت الوزارة على إصدار بيان لتقديم إيضاحات حول هذه التصريحات، إلا أنها عمدت إلى التبرير الديني والعلمي بهذا الخصوص، حيث قيل إن عملية البث سوف تتم باستخدام تقنية حديثة تعدّ أكثر تطوراً من تقنية الألياف الضوئية". قال اللواء نامي: "اليوم ومع تطور التقنية التي تتفوق على الألياف الضوئية، يمكن استخدام طبقات الغلاف الجوي لنقل المعلومات الصوتية والتصويرية، وسيتم إرسال صوت سيدنا الإمام المهدي وصورته للعالم أجمع عبر هذه الطبقات الجديدة". ما يقوله الجنرال الإيراني هو ثمرة ثقافة سائدة في ايران زادت وتيرتها في السنوات الأخيرة وتقوم على مبدأ الميعاد والغيب وهي تقوم مقام الوعي الاسطوري والخرافي.
ما يحكيه الجنرال الايراني عن صوت المهدي المنتظر الغائب، وصورته، قيل قبله عن علاقة النظرية النسبية لأينشتاين بالمعراج الاسلامي المحمدي. فقبل أن تثار الضجة حول "تشيّع" أينشتاين، قالت "شبكة القطيف الثقافيّة" عام 2009 إنّ منظّر النسبية بعث برسالة إلى المرجع الدينيّ الشيعيّ السيد حسين الطباطبائيّ البروجرديّ (1875 – 1961) الذي آلت إليه المرجعيّة سنة 1946. ويذهب المصدر إلى أنّ صاحب نظرية النسبيّة الذي أشاد في رسالته بالإسلام قد عرض نظريّته على آيات قرآنيّة وأحاديث واردة في "نهج البلاغة" للإمام عليّ و"بحار الأنــوار" للمجلسيّ! ومن هذه الروايات رواية المعراج الجســمانيّ للنبيّ التي يوردها المجلسيّ في "البحار" بقوله: عند ارتفاع النبيّ من الأرض، تصطدم رجله أو عباءته بآنية من الماء، وتنقلب آنية الماء. لكن وعند رجوع النبي من المعراج يشاهد أنّ الماء ما زال يجري من الآنية رغم مرور كلّ ذلك الوقت!
يزعم الخبر أنّ أينشتاين يثمّن هذه الرواية، ويصفها بالعلميّة، ويصلها بـ"نسبية الزمان"، معترفاً، في الوقت نفسه، بأنّ "آل البيت" ينفردون بهذه الروايات "العميقة" نقلاً عن أئمّتهم! وفق الرسالة المزعومة دائماً، يتطرّق أينشتاين، أيضاً، إلى عقيدة المعاد الجســـمانيّ، و"يقوم بإثباته من الطرق الفيزيائية، وذلك فضلاً عن قانون نيوتن الثالث بخصوص الفعل ورد الفعل. ويعتبر أنّ معادلة المعاد الجسمانيّ هي عكس المعادلـــة النسبيّة الشهيرة بين المادة والطاقة".
على رغم ما تناولته المواقع الدينية المختلفة في إيران حول هذا الخصوص، كان آية الله علوي، حفيد آية الله البروجردي قد قال إنه كان هناك اتصال عبر مراسلات شفهية بين البروجردي وأينشتاين بواسطة عالم الفيزياء الإيراني الدكتور حسابي، ولكن لا توجد أي معلومات موثقة في شأن اعتناقه الإسلام وقبوله المذهب الشيعي. وسخر إيرانيون أنه "ليس معروفا إذا كان مهدوي كنى يعرف قصة حياة أينشتاين اليهودي، الذي كرر كثيرا أنه لا يؤمن بالرب الذي يراقب الناس بشكل شخصي، بل بالرب الذي يتجسد في قوانين الطبيعة. إلا أنه على رغم عدم إيمانه بالرب وفق المفهوم التقليدي للكلمة، رفض أينشتاين أن يعرّف نفسه بأنه ملحد". ويضيف نشطاء أن آراء أينشتاين المتعلقة بالصهيونية معروفة للجميع. حتى أنه ودعما للصهيونية زار تل أبيب عام 1923، وفي أحد آخر خطاباته قال عام 1954 إن "إسرائيل هي المكان الوحيد على الأرض الذي يمكن فيه لليهود أن يصمموا حياتهم وفق مبادئهم الدينية". وعرض رئيس أول حكومة إسرائيلية، ديفيد بن غوريون، على أينشتاين شغل منصب رئيس دولة إسرائيل، لكنه رفض مدعياً أنه يريد تكريس حياته للعلم وليس للسياسة.
لا شك أن هوية أينشتاين أو عقيدته الدينية (اللاعقيدة) كانت ملتبسة ومتناقضة وتشبه الى حد عقيدة ماركس، وكلاهما من أصول يهودية. كان لأينشتاين قول مشهور "الله مخادع لكنه غير حقود"، و"الله لا يلعب النرد". وعندما سئل عن دافعه لممارسة الفيزياء، ردّ أينشتاين: "أريد أن أعرف كيف خلق الله العالم. لست مهتمّاً بهذه الظاهرة أو تلك، في طيف هذا العنصر أو ذاك. أريد أن أعرف أفكار(ه)، أما الباقي فتفاصيل". في الأسابيع الأخيرة من حياته، عندما علم أينشتاين بموت صديقه الفيزيائي القديم ميشال بيسو، كتب لعائلة هذا الأخير: "لقد غادر هذا العالَم الغريب قبلي بقليل. هذا لا يعني شيئاً. بالنسبة لنا نحن الفيزيائيين المؤمنين، فإنّ التمييز بين الماضي، الحاضر والمستقبل، هو وهم عنيد".
في 28 أيلول 1949، ردّ أيشتاين على احد سائليه حول الدين قائلا: قلت بشكل متكرر إن فكرة إله ذاتيّ هي فكرة صبيانيّة. يمكن أن تسمّيني لاأدريّاً، لكنني لا أتقاسم الروح القويّة للملحد المحترف الذي تعود حماسته إلى الفعل المؤلم للتحرر من قيود الأدلجة الدينية المتلقّاة في الشباب. إنني أفضّل موقف التواضع في مواجهة ضعف فهمنا الثقافيّ للطبيعة ولوجودنا".
أبعد من المعتقد الديني والرباني، نعلم أن النازيين صادروا أموال أينشتاين وممتلكاته، وردا على ذلك قرر التنازل عن جنسيته الألمانية، وكان يتابع بقلق ما يقوم به النازيون ضد اليهود، حتى إن مؤلفات أينشتاين كانت هدفاً للنازيين، فتم إحراق كل ما يتعلق به من أفكار وكتب. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن أينشتاين نفسه صار على قائمة المطلوب اغتيالهم. وكتبت عنه إحدى المجلات الألمانية، أنه واحد من الذين لم يُعدَموا بعد! لقد أورثت تلك الممارسات اللاإنسانية شهوة خفية لدى أينشتاين للانتقام من وطنه ألمانيا انتصاراً لأبناء دينه اليهود. يذكر أن أينشتاين تُوفي في 18 نيسان 1955 وحرق جثمانه في مدينة ترينتون في ولاية نيو جيرسي ونثر رماده في مكان غير معلوم، وحفظ دماغه في جرة عند الطبيب الشرعي توماس هارفي، الذي شرّح جثته بعد موته. وقد أوصى أينشتاين بأن تحفظ مسوّداته ومراسلاته في الجامعة العبرية في القدس، وأن تنقل حقوق استخدام اسمه وصورته إلى هذه الجامعة.