ماذا بعد تحقيق إردوغان هدفه في آيا صوفيا؟

توتّر مع الجيران وأبعد

توسّعُ أنقرة تمدّدها الإقليميّ على حساب اليونان بما يجعل القرار بشأن آيا صوفيا حلقة من ضمن سلسلة حلقات توتّر مع أثينا. في شباط الماضي، سمح الرئيس التركيّ رجب طيب إردوغان للّاجئين بالتوجّه إلى أوروبا عبر بلغاريا واليونان الأمر الذي فرض ضغطاً كبيراً على السلطات الأمنيّة اليونانيّة. أتى ذلك ردّاً على استهداف القوّات الحكوميّة السوريّة جنوداً أتراكاً خلال عمليّة عسكريّة في إدلب، قُتل على إثرها أكثر من 30 عنصراً من الجيش التركيّ.

وخلال الأسابيع الأخيرة، ازداد التوتّر الثنائيّ مع تعهّد إردوغان التنقيب عن النفط والغاز في منطقة تعدّها اليونان واقعة ضمن مياهها الإقليميّة. وترى اليونان في الخطوة المرتبطة بآيا صوفيا محاولة تركيّة لتأكيد نفسها كلاعب قويّ على صعيد الطاقة في المنطقة. في هذه الأثناء قالت جمعيّات الأعمال في اليونان إنّها تتواصل مع منظّمات أوروبّية من أجل توسيع نطاق المقاطعة ضدّ تركيا. وتبلغ الصادرات اليونانيّة إلى تركيا 1.6 مليار دولار، فيما تستورد منها 1.2 مليار.

قدرة اليونان على تحفيز الدول الأوروبّيّة أو كيانات في الاتّحاد الأوروبّيّ على التحرّك ضدّ تركيا ستظلّ محطّ مراقبة. لكنّ تدخّل تركيا في ليبيا وتعزيزها التوتّرات مع عدد من دول الاتّحاد الأوروبّيّ وحلف شمال الأطلسيّ يرفع احتمالات الاحتكاك. وكان الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون قد اتّهم تركيا بانتهاك سيادة اليونان وقبرص. وبعد استقباله الرئيس القبرصيّ نيكوس أناستاسيادس في الإليزيه الخميس الماضي، دعا ماكرون الاتّحاد الأوروبّيّ إلى معاقبة تركيا على سلوكها.

وقال ماكرون إنّ الأمن والطاقة في هذا الجزء من البحر المتوسّط أساسيّان لفرنسا بحيث إنّ تركيا وروسيا ترسّخان موقعهما أكثر فأكثر في مواجهة الاتّحاد الأوروبّيّ الذي ما زال لا يقوم بالمطلوب للردّ عليهما. وأضاف: "سيكون خطأ خطيراً تركُ أمننا في المتوسّط بين أيدي لاعبين آخرين. هذا ليس خياراً لأوروبا وليس أمراً ستترك فرنسا حدوثه".

يوم الثلثاء الماضي، أقرّ مجلس النوّاب الأميركيّ مسوّدة قانون تلزم الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب بفرض عقوبات على تركيا بسبب شرائها نظام الدفاع الصاروخيّ "أس-400". ومن المحتمل أن يصل مجلس الشيوخ إلى توافق مع النوّاب حول قانون موحّد لدفع ترامب إلى فرض العقوبات. لهذا السبب، أتت موافقة تركيا على تحويل آيا صوفيا إلى مسجد وإقامة إردوغان أوّل صلاة فيه يوم الجمعة الماضي في أصعب وقت ممكن لأنقرة. يضاف إلى ذلك أنّ الوضع الداخليّ في تركيا غير محصّن أمام المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة.


ماذا بعد "الاستعراض"؟

يرى البعض أنّ تحالف "حزب العدلة والتنمية" مع "حزب الحركة القوميّة" لم يترك يوماً "طبيعيّاً" داخل تركيا من أجل مناقشة المشاكل الروتينيّة مثل الاقتصاد أو تفشّي وباء "كوفيد-19"، حيث تسيطر النقاشات الكبيرة والمغامرات الخارجيّة على أجندتهما السياسيّة. جاء قرار آيا صوفيا لتحويل الأنظار عن إخفاق تركيا في مواجهة "كورونا" وفي إدارة أزمتها الاقتصاديّة، وفقاً لما اقترح باحثون، ومن بينهم الباحث في الشؤون التركيّة في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" سونر تشابتاي. ومع ابتعاد هذا الموضوع عن الأضواء الإعلاميّة، ستعود تركيا مجدّداً إلى واقعها الصعب.

رئيس وزراء أسوج السابق والرئيس المشارك لـ "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجيّة" كارل بيلدت هو واحد من الذين يعتقدون بأنّ القرار حول آيا صوفيا جزء من "الاستعراض" لتشتيت الأنظار. لكن بعد ذلك، ستدخل تركيا مرحلة من الفوضى السياسيّة والاقتصاديّة الكبيرة، فيما يخسر إردوغان الليبيراليّين والشباب وسكّان المدن الذين يبتعدون عنه بأعداد كبيرة وفقاً لما كتبه بيلدت في "بروجيكت سنديكيت".

عودة الرئيس التركيّ اليوم لمواجهة المشاكل الداخليّة بعد انحسار الحديث عن آيا صوفيا، تصطدم باحتمال عدم تمكّنه من تعزيز وضعه الشعبيّ كي يكون قادراً على اتّخاذ قرارات اقتصاديّة صعبة. فبحسب الباحث والأستاذ في جامعة "تولوز جان جوريس" الفرنسيّة جان-فرانسوا بيروز، يبدو أنّ قرار إعادة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد "لم ينتج التعبئة المنتظرة". وكتب في مجلّة "أوريان 21" أنّه يمكن التساؤل في الظرف الحاليّ "عمّا سيجنيه النظام من قرار كهذا، مقابل ما يدفعه"، مشيراً إلى محاولة السلطة تصوير نفسها كمنتصرة في وقت "لا يبدو الشعب مقتنعاً بذلك". فهو "منهمك بمشاغل أخرى".

ووصف القرار بشأن آيا صوفيا بأنّه "مسلسل سيئ مليء بالأخطاء، أنتجه نظام متعب يفتقر للخيال ويبحث جاهداً عن الرمزيات، في ظروف سيئة". لذلك، "يبدو هذا ‘الانتصار‘ تراجعاً، وهو علامة من علامات الإنهاك السياسي" الذي يطال الائتلاف الحاكم.

مثل بيروز، يعتقد بيلدت أنّ شعبيّة إردوغان "تتآكل" إلى درجة يرى فيها أنّ "نجاة" الرئيس التركيّ من انتخابات مقبلة "غير محتملة"، حتى بمساعدة حليفه "الحركة القوميّة". وثمّة نقطة تشابه أخرى في التحليلين. ففي معرض تعليقه على قرار إعادة آيا صوفيا إلى مسجد، يرى بيلدت أنّ تعبئة القاعدة المحافظة القوميّة هي مناورة لا تحمل في طيّاتها الكثير من المساعدة لحساباته.

قال تشابتاي إنّ قرار إردوغان حول آيا صوفيا يسمح له "بتغيير السرديّة بعيداً من الاقتصاد إلى الحروب الثقافية، وهو مجال أجاد فيه سابقاً عبر تعبئة قاعدته اليمينيّة". ليس كلّ ما كان يصلح في الماضي يصلح بالضرورة للحاضر. قد يطول الوقت قبل معرفة ما إذا كانت حسابات إردوغان دقيقة. لكن ما قد يتبيّن سريعاً توسّع حجم المشاكل الاقتصادية التي لا تزال تنتظره.