الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

قبلان حميد فرنجيه: عنقودٌ سقط وخمرتُه باقية

المصدر: النهار
كابي لطيف - باريس
قبلان حميد فرنجيه: عنقودٌ سقط وخمرتُه باقية
قبلان حميد فرنجيه: عنقودٌ سقط وخمرتُه باقية
A+ A-

يتخلى اللبناني الفرنسي عن قميصه الأول ليرتدي قميصاً آخر معتَمَداً في البلد الذي يسكنه. لكنّ لبنان ساكن في كل واحد من لبنانيي فرنسا. عند اللقاء: "شو أخبارك وأخبار لبنان، إلخ". أما قبلان فرنجية، الشخصية التي لا تشبه سواها، فلم التق بمثله خلال إقامتي في باريس لأكثر من ثلاثة عقود. وجهٌ سمح. تواضعٌ كبير. صوتٌ خافت. كلامٌ قليل. معاناةٌ عميقة. جرحُ لبنان ممزوج فيه‪.‬‬

لن يقول لك فرنجية إلا الكلمات المدروسة النقية العميقة. تشعر تلقائياً، في كل مرة تلتقيه فيها، أنك أمام هالة من أرز لبنان، كأنه حمل جبال الصوان إلى حيث يقيم. تشعر أنه من طينة أخرى لا وجود لها إلا في الأساطير، في الكتب، في الخيال. تخفض نبرة صوتك عندما تتحدث إليه. تبحث عن أفكارك لتخرجها إلى الضوء عبر كلمات معبرة. معه لا مجال للارتجال. إنه يخلع عنك فوضى الكلمات ليدخلك في عمق الحوار. تشعر في حضرته بالسلام الداخلي لأنه يدخلك إلى عالمه، يدعوك إليه. فتستقر‪.‬‬

عاصرتُ نماذج كثيرة من لبنانيي فرنسا. لكلّ حكايته. أما هو فاسمه حكايته. هو نجل حميد فرنجية، رجل الاستقلال، الشخصية السياسية اللبنانية التي شغلت مناصب وزارية عدة في الأربعينات والخمسينات، شقيق الرئيس سليمان فرنجية وهو الإبن البكر لهذه العائلة السياسية العريقة، ‬ و شقيق النائب الراحل سمير فرنجية.

عراقته تتجلى في حضوره وتصل إليك دون كلام. دون جهد. هي حاضرة. واضحة‪.‬‬

في شخصيته روح لبنان. في نظراته عتب وأسى. في ابتسامته طيبة الأبرياء. إنه بريء مما حدث في لبنان. لم يتعاطَ الشأن السياسي المباشر. لكنه مجبول بالسياسة. بلبنان. بالأحداث التي تجري على أرضه الأمّ وكم هي كثيرة‪.‬‬

كل يوم أحد يلتقي قبلان فرنجية مجموعة من أصدقائه في المقهى الملاصق للمخزن اللبناني الشهير في الدائرة الخامسة عشرة حيث أقطن وحيث يتبضع الباريسيون الزيتون والمنقوشة والخبز والكنافة وغيرها. يلتقي بالأصدقاء حول فنجان قهوة وحوار عن أوضاع لبنان‪.‬‬

من حين إلى آخر، كنت أجلس مع الرجال الأصدقاء. كلٌّ يحلل على ليلاه وينتقد ويشتاق ويثور ويحن إلى خبز أمه. أما قبلان، المعروف بقمة الاعتدال، فكان "متطرفاً" في ارتباطه بلبنان وشغوفاً بخلاصه من الهيمنة والمجهول والحاصل على أرضه. يسألني عن عملي. عن والدتي. ينظر إليَّ بدفء، بمحبة، باحترام طبع شخصيته. كان يحلو لي أن اسميه قبلان بك، شاعرةً أن هذه الكلمة تليق به. هي إرثه الذي حمله معه إلى باريس. ‪وكانت منى شريكة حياته دائمة الابتسامة وتضفي على الحديث بعضاً من تفاؤلها ‬ المعهود‪. ‬‬‬

برحيله نفقد آخر البكاوات اللبنانيين في باريس، وتنطوي صفحة أخرى من صفحات لبنانيي العالم. سيعانق جثمانه أرض فرنسا لا أرض لبنان. سيُصلى على جثمانه الجمعة الواقع في 17 تموز في كاتدرائية سيدة لبنان في باريس لا في كنيسة سيدة الحصن في زغرتا‪.‬‬

قبلان حميد فرنجية عنقود جميل من لبنانيي فرنسا الذين عاشوا لبنان من بعيد. وتألموا لأجله. لأنه هم. وهم هو. وهكذا سيبقى في قلب كل مؤمن به، على خطى قبلان "بك‪".‬‬

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم