الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

احتَجَبَتِ الصَّحيفة

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
احتَجَبَتِ الصَّحيفة
احتَجَبَتِ الصَّحيفة
A+ A-

هذا آخرُ مَقالٍ لي. عليَّ أن أرسِلَه اليومَ لأودِّعَ به صحيفَتي. لا أدري هل سيَطَّلِع عَليه رَئيس التحرير؟ هل سَيَقْبَلهُ؟ هو الآخَر مَصعوقٌ بنَبَأ احتجاب هذه اليوميّة العربيّة. تشير القَرائِن إلى انخفاض الإقبال على القراءة وتعثّر توزيع نُسختَنا الورقيّة. لكنْ موقِعُنا الإلكترونيّ مَقروءٌ، يزورُه الآلافُ في اليوم الواحِد. لم يَفهم أحدٌ أسبابَ هذا القَرار الذي "نَزَلَ من فَوق"، ولا أحدَ يُدرك دوافِعَه الحقيقيّة. رنَّتْ داخلي كلمةُ "احتِجاب". كأنّي أراها لأوَّل مَرَّة. لم أفْطن قبلُ أنَّنا نُشبِّهُ الصحيفَةَ بالمرأة، التي تتخفَّى وراء خِمارها لتَغيب عَن الأنظار. المرأة المُحتَجبة لا تموت، أما صَحيفَتُنا فَإلى العَدم، الغيابِ التامّ لا محالة. ستَحْتَجبُ غَدًا، بعدَ عددِها الأخير هذا الـمَساء.

لا أتخيّل كيف تَسقطُ أسْرَةُ تَحريرٍ بِأسرها في عَدمٍ فُجائي سَيَلتهم كلَّ شيء: المقالات السياسيّة، ما استَقصَيناه في التقارير الاجتماعيّة وما حُبِّر من نُصوص أدبيّة. تتهاوى كلُّها فجأةً. كأنَّ العالَمَ لم يَكن، وكأنْ لم تُكتب عنه كلمةٌ واحدة، ولا قيلت عن تَأويله الآراءُ. كنّا أسرةً مُتماسِكةً، ولو ظاهريًّا، أوفياء ضرورةً لسياسة التحرير. في لحظةٍ، لا وَرَقَ مطبوعَ تملأ رائحةُ حبرِه الطازجة أنوفَنا، كما كان يَملأ أنفي خبزُ أمّي، ولا خطوطَ تشكّل النصوص على الموقع وتؤثِّثه موادَّ وصورًا. سيَجمدُ الموقع ويَقف فيه التاريخ وحتى الساعة والدقيقَة. لا حَركةَ للزمن فيه، تلك التي كانت الساعة الرقميّة، الواقعةُ أسفَلَ الشَّاشَة، تُسجّلها لحظةً بلحظةٍ.

سَتَتَلاشى، بعد نهاية الأجل المحتوم، كلُّ موادِّه في السديم الرقمي. تصير لا شيءَ. سَتضيع تلك الأحاسيس والعبارات التي حرّكتنا سَنواتٍ. أعرف أنّ بعضها كان مُراقَبًا، أنّ مقصَّ الرّقابة أثّر فيها، ولكنها نصوصٌ، سبق وأن هزّت عواطِفنا وأذهانَنا. أوهامٌ ولكنّنا عِشْنا بها. سذاجاتٌ، وهل بِغَيرها نَحيا؟ في هذا الصّباح، أرسل لنا الرئيس التنفيذي إيميْلاً يُخبرنا باحتِجاب الصحيفة. "نزل القَرارُ من فَوق". كانت رسالتُهُ مُقتضبةً، بلا مُقدّمةٍ ولا خاتِمة. "تحيّاتي". أطلقها باردةً منافقةً، بلا مَذاق.

عمّا سأكتبُ في مقال التوديع؟ استَرجعتُ في لحظاتٍ ما عشتُ في عملي بهذه الصحيفة طيلَة سَبع سنواتٍ: تعاملتُ مع ثلاثة من مديري التحرير. تَحمّلتُ نَزواتِهم وتغيَّرَ أمزجتهم. بما أنّي امرأة، ما كانوا يصدّقون أنّ تلك المقالات التي أخُطُّها تصدُر فعلاً عن قَلمي وتنبعِثُ من عَقلي. أنا "ناقصة عقلٍ" في نَظرهم، لا عمقَ في كتابتي. كانت مُهمّتي تحريرَ أخبار الجرائم والقضايا، ضمنَ قِسم "أصداء المحاكم"، أو إجراء مُقابلات مع ذَوي الضحّايا واستجوابُهم.

نشأتُ في عائلة تقليديّة، أخذتُ عنها "الخلفيّة التراثيّة"، كما يحلو لزملائي أن يُناكِفوني. عشقتُ الصحافةَ من صِغَري. كنت ألتهم ما يقع في يَدَيَّ من أوراقها. لا أترك سطرًا إلا وتصوّرتُ ما وراءَه من سرديّات الحياة والـمَوت، أتَمّم عناصرها من نَسج خَيالي. التحقتُ "بمَعهد اللغات الحيّة" وتألّقت في مادّة الصحافة وفيه جَرّبتُ حظّي مع صحيفة يصدرها الطَّلَبَة. ثمّ التَحَقتُ، وإنْ بصعوبةٍ كبيرة، بجريدة جِهويَّة مَغمورَة. أنقل أخبارَ المنطقة. كان أسلوبي يبهرُ زملائي في القِسم. ويحْرجُ المديرَ. كنتُ مُتحجِّبةً، يستر الحجابُ شَعري وشيئًا من وَجهي. أحسُّ أنَّ النَّاسَ أكثر فضولاً. كأنّي بهم يحاولون تخَيّلَ لونَ شعري وملامح وجهي المخْفيَّة. يتَمّمونَ العناصرَ. أتحاشى نَظراتهم وأغمُرُني في القراءة والكتابة.

أثناء مزاولة عَملي، صحافيةً متخصصةً في القضايا والجرائم، أدركتُ مدى قُبحِ العالَم وفَظاعَة الشرّ. كنتُ أتساءلُ: لمَ أتَمسّكُ بهذا السِّتْر ما دام البُؤس في الدنيَا مفضوحًا والألمُ سافرًا؟ مِهنَتي تصوير الفظاعة وهزُّ الرأي العام بها. تحبير الشَرِّ. ما من مقالٍ إلا ويدفعني إلى أن أكشِفَ شَعْري أكثرَ أو أقلَّ. كانت معادلةً غريبةً بين هَول الجَريمة وتَخفيف الحِجاب. لم أقاوم هذا الجدلَ بين ما أكتُبُه، في أروقة المحاكم، وعبثِ يديَّ اللاشعوري بقِطعة القماش التي تغطي شَعري. أحيانًا، تؤثر الجرائم التي أغَطّيها في لون الحجاب، ونوعية قُماشه. حين تكون الجُنح بسيطةً، أسْدِل حجابًا سميكًا. وأرفعه قليلاً حين تهزّني قَسوة الجرائم.

أعجبتني هذه اللعبَة البائسة، بعدما فَطنتُ إلى فخّ التّضاد: التقارير التي أُعدّها تُسمّى "تغطية"، مع أنها تُعرّي الموضوعَ وتَكشف سَوءتَه. أحرِّر مَقالاً فإذا به يَسجُنُني في امتعاضٍ طويل، لا أنفكّ عنه حتى أرفع غِطاءَ رأسي، مع أنَّني أرتديه بقناعة تامّة. ألهذا الحدّ تُعابثنا اللغة ونحن لا ندري؟ لَمْ يجبرني أحدٌ على ارتدائه. لا أبي ولا أخي الأكبر. قناعتي لا تصمد أمام هول المَشاهد التي أستعيدها. راودَتني فكرةُ السفور قبلَ أشهر. وبَدأتُ أكشِفُ بالتَّدريج شَعْري باستعمال القبّعات الأنيقة وأغطية الرأس الملوَّنَة.

وحتى أسرّع هذا التحوُّلَ، راسلتُ المديرَ العام مُلتمسةً منه نقلي من المتابعات الجنائيّة إلى "القسم السياسي". استدعاني المدير وساومني بلهجة تكاد تكون مفضوحةً: إذا أردتِ الالتحاقَ بالقسم السياسيّ، فهذا ممكن. ماذا لو تَرافقنا إلى مقهى الفندق؟ نَشرَبُ شيئًا وأشرحُ لكِ ظروفَ العمل ومُتَطَلَّبات التحرير؟

أنْ أقْبَلَ احتِسَاءَ شَيءٍ ما في الفندق يعني أن أقبَلَ ما بَعدَه. مُساومةٌ مألوفة ولُعبةٌ سَمْجةٌ واجَهْتُها مرارًا أثناءَ إنجاز عَملي. لم يُراعِ المدير حجابي، ولا قدَّرَ ما كَتَبته من مقالاتٍ وتَغطيات. لمْ يرَ مني إلاّ شَكلي، ما يُمكن أن يَجنيه من مَلذّات، كما لم تَرَ الإدارة إلا ما تَجنيه الصحيفة من مالٍ وما تَصرفه عليها. رسالتُها؟ رَجمُ ظنونٍ. أيعني ذلك أنَّ مموّلَنا هو الآخر لا يؤمن بأيّ دور للكلمة؟ غَير مستبعَدٍ. المسألة عنده حسابات ربحٍ وخسارة، موازنة وأرقامٍ. قرّرتُ الذهاب مع المدير. أعجبتني لُعبتُه القَذرة. قد يَنقلب سِحرُها عَلى السّاحر. تعودّتُ على المشي على حافّة الخَطر. هذه مهنتي ورسالتي. في بَهو الفندق، طلبتُ كأس حَليبٍ باردٍ. اعتبرَها إشارةً سلبيّة. أرْبَكْتُه من البداية. سجّلتُ نقطةً قويّةً. تقطَّعَت جُمَلُه، بَحَثَ عن الكلمات ليؤلفها. شردَتْ نَظراتُه. كنْتُ أظنُّه أصْلَبَ. أشار إلى حجابي: "أتعلمينَ؟ في بعض المقابلات الصحفيّة، قد يُشكّل عائقًا؟"، مشيرًا بِيَده إلى رأسي. لم ينطق بِكلمة "حجاب"، تَجنَّبها بمَكرٍ. أضاف: "القسم السياسيّ حارِق، تقنيات الكتابة فيه مثل غَزالٍ حَرونٍ، لا تُروَّض". أنا أيضًا غزالٌ أشْرَد. لا يروّضني أحَدٌ، باستثناء البؤس الذي كَسَر قناعاتي كلها. "سَمعتُ أنّ الصحيفةَ قد تَحتَجِب في أيّ يومٍ، مثل كثيرٍ من زميلاتها. أكلُّها في الوَحَل؟"، غيّرتُ الموضوعَ بعد أن اصْطَنعتُ البراءَةَ. "لا تصدّقي هذه الإشاعات. حربٌ نفسيَّة. فَوقَ: الأمور صامدةٌ والإدارة مُتماسِكَةٌ. المهم الجرأة، الجُرأة يا صديقَتي... وستنفتح أمامَكِ الأبواب المغلقة وتنكشف الكنوز المخبوءة".

قرّرتُ أن أجرُأَ. سأتمسَّك بما تَهبني الأحياء، الشعبيّة منها والراقية على حدّ سواء، من ثَخانَة الجرائم والمآسي والفظاعات. ليَذهَبْ المديرُ إلى الجَحيم مع كُنوزه. لا يستأهل حتى أن أرفعَ ضدّه قضيّةً، قد تُغطيها الصّحف والمواقع الـمُنافسة. كلها في الوَحَل تتمسَّكُ بأدنى خَيطٍ. لا يَستأهل أن يُحيطَ به مَقالٌ. أزدريه. وأظلُّ في "أصداء المحاكم" أتعقّبُ الجرائم والقضايا وأتجول بين أروقتها أتابِع ما يَقتَرفه بني وطني المخذول. كان هذا من سنةٍ.

للتَوّ وَصلتني رسالةٌ نصيّةٌ: "غدًا ستَحتَجب صحيفتُنا إلى الأبد. الرّجاء إرسال مَقالٍ توديعي." سَأجْرأ وأكتبُ مقالي عن جُرم التحرّش الذي تعرّضتُ له، على امتداد مسيرَتي. وبعدها سأخلع حجابي وفاءً لوالدتي، حتى لا يَزدريه أحدٌ، ولْتَحتَجبْ الجريدة، ما دام أصحابها لا يؤمنون بالكلمة. سأصوغ عباراتي من وَجع وَحدتي، من ذُهولي أمام هول جرائم القتل والاغتصاب والسرقة التي تابعتها لسنينَ، ومن وَجع أمّي التي كانت تَحتضرُ، بينَ يديَّ، بعد إصابتها برَصاصَةٍ طائشة: "أقسمتُ عليكِ يا بنتي العَزيزة، اجرُئي على الكتابة.. وستنفتح أمامكِ الأبواب الـمُغلقَة وتنكشف الكنوز الـمخبوءة".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم