"حارس القبر" الخامس في مجلّد "كتاب العتب"... ملحم الرياشي يُطلق سراح التاريخ

يوسف طراد

حين حلّ اللّاهوت في الناسوت، وحمل قدموس إلى الملكوت، فتح ملحم الرياشي حدود الكون على مصراعيه، مطلقًا سراح التاريخ إلى أقاصي الأرض ومجاهل الفكر، محررًا الحاضر من أغلال كبّلته. فكان كتابه "حارس القبر"، الذي جاء الخامس في الترتيب ضمن مجلّد "كتاب العتب"، الصادر عن "دار سائر المشرق".

من هنا، من على هذه الأرض الطيبة، تتجدّد البشرى بسلاسة مبهرة. تستمر عناصر رونقها عبقًا من التاريخ، عبر أبطال أساطير لبنان العريق. سكب الكاتب أناقة حبره على أوراق استمدت قداستها من قدسية الأرض التي هي مرسحٌ لروح قدموس، لتكون شاهدة على البشرى عجائب وصلبًا وقيامة.

اِرتابت ذاكرة قدموس من صوَر عتيقة وأسرار منقوشة على الصخور ومذابح المعابد. فأسطورة أدونيس المولود من السيدة العذراء (عنات)، والمُرسل مخلِّصًا من قبل الإله (إيل)، حسب اللّاهوت الفينيقي. هذه الأسطورة الشبيهة بواقع البشرى عند المسيحيين من حيث البناء الطقسي وليس من حيث العمق الإيماني، لم تشف غليل روح قدموس وحنينه نحو أحبّة رحلوا. فروحه النبيلة القلقة الساكنة فارس العصور، هامت في فضاءات لا حدود لها من الحزن والارتياب، فحملها الرياشي من عزلتها، نافضًا الغبار عن جناحيها المأسورين لفكرة بالية وحجة إيمان واهية، ووضعها على دروب الحج في زمن الحدث. فعشقت الأجمل، وطافت الشعاب والشوارع، مع اتجاه إلى الحلم الحقيقي، المتجسّد بالكلمة الشافية من فم المخلّص. وتلمّست خطاه في كلّ درب وسماء وعطر قداسة وشفاء واِهتداء، إلى أن اِهتدت إلى الحكمة والإيمان في مملكة الحب الهادىء، البعيدة كلّ البعد عن صخب مملكة قيصر، وكانت حارسًا للشعلة الأبدية الخارجة من القبر، التي سكنت في كلّ ارتشافة خمر مقدّسة "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عنكم. لو 20-22".

ليس مصادفة، أن يذكر ملحم الرياشي، العجيبة التي صنعها الرب مع المرأة الكنعانية، على لسان راوِ استمعت إليه روح قدموس: "رفع يده، وضعها على رأس الكنعانية، وبصوت أعذب من ثدي أم مرضعة، (اذهبي يا امرأة، إيمانك العظيم قد خلّص ابنتك)، المرأة رحلت، وصراخ أهل بيتها أعلن الشفاء عليها". هذه العجيبة حصلت في وطن قدموس، وقد أسست لكنيسة "لن تقوى عليها أبواب الجحيم"، لأن معظم الخراف الضّالة من بني إسرائيل لم تهتدِ إلى الإيمان. لذلك أمر السيد المسيح تلاميذه أن يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم. فكان للبشرى آذان صاغية في مدينة صور سيدة البحار، وقد شُيّدت فيها أول كنسية في تاريخ المسيحية، حيث زارها القدّيس بولس الرسول عام 57م.

اطمئنت روح سيد الحرف لبشرى الكلمة الشافية الصادرة من فم المخلّص. وتأكد أن طقوس الذبيحة الفينيقية القديمة الخاوية من الصلاة المحييَة، المعتمدة على الخبز والخمر، والتي كانت تقام من أجل آلهة غير موجودة الّا بحجارة دون روح، ستستمر عابقة بروحية إفخارستية الكنائس المسيحية، وسيعبد شعبه الإله الحي الأوحد.

إذا كان هدف الكاتب كريم الكوسا، عبر روايته "الشيفرة الفينيقية- أسرار الكأس المقدّسة" لبننة الدين المسيحي من أجل الوطن، مشابهًا لحلم الفيلسوف والشاعر الكبير سعيد عقل بلبننة العالم، فقد ورد في الرواية: "دمّ يسوع المسيح المقدّس هو دمه الفينيقي الملكي"، والثابت أن المسيح هو من سلالة داوود، كما جاء في مطلع إنجيل القديس متّى من خلال مقطع يتلى يوم أحد النّسبة حسب السنة الطقسية المارونية. فقصة ملحم الرياشي وضعت الإيمان الصحيح في الروح المتعطّشة إلى الحياة، عبر الأزمنة الخالدة من الأزل إلى الأبد، تأكيدًا لأمنيات تموج في طقوس شاردة عبر الماضي متهادية في الحاضر على مذابح الرب، حاملة أفكارنا المربَكة إلى داخل الصواب وحقيقة الخبز والخمر.

وإذا كان كتاب "بيركليس"، لأمين ألبرت الريحاني، عصارة فكر وأمثولة دهر، أو لغزًا حُلّت طلاسمه، باجتماع أرواح العصور الغابرة: "فخر الدين وبيركليس" في مرسحية ولدت معانيَ جديدة، مدموجة في زمنين متباعدين، بشخصيات حملت مآسيَ شعوبها، ونظرتهم إلى ظلم الرجال الذين سيّسوا الحياة الدنيوية. فقصة حارس القبر للرياشي، جعلت رعبنا يموت على خشبة الإعدام، من خلال إيماننا بحياة أبدية، عاشتها روح قدموس مذ زرع نصف أسنان التنين في أرض أثينا بناءً لأوامر (بالاس) ونبت منها شعب (الإسبارطيين) أي المزروعين. وكانت حياة من الجماد تحاكي مفهوم الحياة المتجددة بالموت في الإيمان المسيحي، المشابه لأسطورة انبعاث الرماد من الفينيق.