إنيو موريكوني - الميلانكولي، الرقيق والعصبي

يُقال ان أشياء كثيرة كانت تزعج المؤلف الموسيقي الكبير إنيو موريكوني (١٩٢٨ - ٢٠٢٠)، أحدها الحديث عن نفسه وإجراء المقابلات. فهو، بعدما وضع موسيقى أكثر من ٥٠٠ فيلم سينمائي وباع ٧٠ مليون اسطوانة حول العالم، على امتداد أكثر من نصف قرن، كان مطمئناً لحقيقة أنه ما احتاج يوماً إلى كلام. الموسيقى لغة كونية، عابرة للثقافات والأعراق والمفاهيم واللغات، يفهمها الجميع من دون ان يجيد المرء قراءة نوتة واحدة. وكان موريكوني ينطق بها وعبرها. قال كلّ شيء من خلال النغمة، اللحن، المعزوفة، الايقاع، الصدى. نقل أحاسيس وحكايات وإيقاعات. قال حتى ما يتعذّر قوله. اعتبر ان "الفيلم هو ما نراه أو نسمعه، لكن الموسيقى تجسّد المسكوت عنه”.


بلحنه الآسر، وصل موريكوني إلى الملايين. دخل قلوبهم حتى من دون ان يعرفوا اسمه. لا يكاد يوجد شخص واحد لم يسمع على الأقل لحناً من ألحانه التي حوّلته اسطورة حيّة بين الملحنين، هو الذي يأتي من بلد أعطى السينما ملحنين عظماء، من نوعية نينو روتّا الذي ارتبط اسمه باسم فيلليني. ظلّ موريكوني نشيطاً، ملتزماً إيقاع عمل جهنمياً، حتى نفسه الأخير. قبل سنتين من رحيله، كان يجوب العواصم الأوروبية والعالم قائداً للأوركسترا، لامتاع الناس بمقطوعات من أشهر أعماله في جولة أرادها وداعية. أمس الأحد، رحل هذا الإيطالي الكبير في مسقطه روما، عن عمر ٩١ عاماً، تاركاً خلفه ثروة موسيقية، باتت تنتمي إلى التراث البشري أجمع.

سينمائياً، انطلق موريكوني في العام ١٩٦١، عندما طلب اليه المخرج لوتشيانو سالسه الموسيقى التصويرية لفيلم "الفيديراله". بعدها، كما بات معلوماً للكثيرين، ذاع صيته جداً في مجال موسيقى أفلام الوسترن سباغيتّي، ولكن لم يكن يحب أن يحصر نفسه في اطارها، فعمله متنوع، كتب حتى تراتيل دينية وموسيقى أوركسترالية وموسيقى غرف وأغاني لميراي ماتيو. ويبدو ان حصره في الوسترن سباغيتّي كان يغضبه، فيرد: "وضعتُ الموسيقى لأفلام عدة، ولم أكتب لأفلام الوسترن فقط”.


عندما تخرّج في كونسرفاتوار سانتا تشيشيليا، لم يكن يفكّر قط سوى في الموسيقى الكلاسيكية، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، تلك الفترة القاسية في تاريخ إيطاليا، فاضطر إلى اعالة عائلته، عازفاً على الترومبون في النوادي المكتظة بالأميركيين. حقبة رواها لمجلّة "الاكسبرس" الفرنسية على النحو الآتي: “كنت أشعر بالألم لدى تقاضيّ مالاً لإفراح المحتلّين. عملتُ خلسةً، لأن محاربة الموسيقى "الخفيفة" كانت على أشدّها آنذاك. في غضون ذلك، بدأ اسمي ينتشر، حتى طلب إليّ سرجيو ليوني التعاون معه في فيلم "لأجل حفنة من الدولارات”.

بعد أول فيلم مع ليوني، كرّت سبحة الأفلام، حد ان تعاونهما صار الأشهر في تاريخ السينما الحديثة. كلاهما حقق من خلاله نجاحاً باهراً لا مثيل له. أدخل موريكوني آلات فريدة في مؤلفاته الموسيقية، كالمثلث والجرس والصفّارة وصراخ الإنسان والحيوانات. لم يبغِ في ذلك استفزازاً، بل واقعية في عالم الوسترن. يقول: "لطالما أرهفتُ السمع للأصوات في أصغر ذرّاتها. عواء الثعلب موسيقى. ولترجمته موسيقياً في فيلم "الطيب، الشرير والقبيح"، طلبتُ إلى مغنين ان يصرخا معاً. دمجتُ الصوتين مع الصدى. النتيجة أذهلت ليوني، أما الهارمونيكا في "ذات زمن في الغرب" فكان عليها ان تصرخ كصراخ الوجع، اذ كانت تجسّد وجع الاهانة التي أصابت شخصية برونسون. أثناء التسجيل أدركنا ان العازف يعزف في رتابة. فما كان من سرجيو الاّ أن هجم عليه ووضع يديه على خناقه، الأمر الذي أنجح الصوت وأحياه”.

لم يكن موريكوني يزيّن الأفلام بألحان. كانت موسيقاه ذات شخصية قوية جداً، حضورها يطغى على الصورة، وأحياناً "تسرق" من الفيلم، لتصبح هي الشخصية، وهذا الأمر لم يلائم كلّ السينمائيين، لذلك هناك مَن كرر التعاون معه ليصبح اسمه لصيقاً باسم المايسترو، وهناك مَن اكتفى بتجربة أو اثنتين.

لعبت موسيقاه على أكثر من طبقة: باطنية، انفعالية، واضحة، استفزازية، تهديدية، عصبية، تفخيمية، الخ… أحياناً، كانت ترسم المشهد رسماً، تضبط إيقاعه، تضيف عليه حسّاً وجماليات. ضرب موريكوني على الوتر الإنساني الحسّاس، استخرج من المُشاهد كلّ العواطف المخبأة، من دون ان يلجأ إلى الافتعال. موسيقاه هذه التي كان عصيّاً تصنيفها على النقّاد، أطلق عليها تسمية “أسولوتا".

اذا نظرنا في الفيلموغرافيا الخاصة بالمايسترو، نُصاب بدهشة. ما من موسيقي استطاع ان يجمع هذا الكم من الأسماء في سيرته: سرجيو ليوني، جون هيوستن، جون بورمان، برناردو برتوللوتشي، جيوسيبّي تورناتوري، بيار باولو بازوليني، ترنس ماليك، هنري فرنوي، إليو بتري، براين دي بالما، كوانتن تارانتينو، ماركو بيللوكيو، داريو أرجنتو.

من أعظم ما لحّنه، موسيقى الأفلام الآتية: "عصابة الصقليين"لهنري فرنوي (موسيقى عصبية)، "سينما باراديزو" لجيوسيبّي تورناتوري (مشاعر رقيقة وحنين ماضوي)، "١٩٠٠" لبرناردو برتوللوتشي (شاعرية)، "المحترف" لجورج لوتنر (رومنسية)، "أيام الجنّة" لترنس ماليك (ميلانكولية وعواطف)، و"المهمّة" لرولان جوفيه، وطبعاً على الأقل ثلاثة ألحان أيقونية مع سرجيو ليوني: "ذات زمن في الغرب" و"ذات زمن في أميركا"، وطبعاً وخصوصاً، اللحن الذي صنع عظمة المشهد الختامي في "الطيب، الشرير والقبيح" مع كلينت إيستوود. وفي فترته الأخيرة، كان تعامل مع تارانتينو الذي كان يعشق موسيقاه، الا ان هذا العشق، كما صار معلوماً، كان من طرف واحد، فموريكوني لم يبادله الإعجاب كثيراً، وقال فيه في احد اللقاءات انه "يضع الموسيقى في الأفلام بلا أيّ انسجام". تصريحات عاد وقال عنها إنها فُهمت خارج سياقها.

لم يفز بـ"الأوسكار" بالرغم من انه رُشِّح لها خمس مرات، الا في الترشيح السادس، في العام ٢٠١٦، عندما كان بلغ الـ٨٨، عن اللحن المثير الذي وضعه لفيلم تارانتينو، "الثمانية البغيضون"، مع التذكير بأنه كان نال “أوسكاراً” شرفية في العام ٢٠٠٧ عن مجمل أعماله.

الالهام؟ لم يؤمن به موريكوني، اذ كان يقول: "هل تعتقد أني أكتب موسيقاي بمجرد سماعي زقزقة عصفور؟ لا أعلم من قال إن الالهام لا يفوق الواحد في المئة والباقي جهد وعرق. الموسيقى عشق حارق طالما أننا لم نروه. كلا، الالهام في معناه الرومنطيقي غير موجود. لكن العذاب، هو، حقيقيّ”.

لم يكل موريكوني ولم يمل، كانت الموسيقى سبب عيشه الأوحد… تلك الموسيقى التي قال عنها نيتشه بأن الحياة من دونها غلطة، نفي. كما كتب القائم على صفحة مهرجان كانّ بعد انتشار خبر وفاة موريكوني: صمت قاهر يخيّم على عالم السينما منذ رحيله!