الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

القابلات في أفغانستان: قائدات من خلف الكواليس

زهرة كوتشيزاد*
القابلات في أفغانستان: قائدات من خلف الكواليس
القابلات في أفغانستان: قائدات من خلف الكواليس
A+ A-

عملنا كقابلات في أفغانستان شديد الصعوبة مقارنةً بأي مكان آخر، فنحن نساعد النساء على إنجاب حياة جديدة في هذا البلد في ظل ظروف أكثر قساوة. كل عام، يولد نحو 130 مليون طفلٍ حول العالم [1]، ما يعني أّن ملايين النساء يحتجن إلى المساعدة خلال فترة الحمل وأثناء المخاض. الإنجاب في رأيي يشكّل أحد أعظم اللحظات وأكثر المواقف حساسية في حياة المرأة.

إن شغفي الذي يدفعني لمساعدة النساء على وضع مواليدهن ورغبتي القوية في خدمة شعبي دفعا بي لأختار خوض غمار العمل في مجال القبالة. وما عزّز اقتناعي بهذا الاختيار هو امتهان عدد من النساء في عائلتي القبالة أيضًا، فبعض من عماتي وبنات عماتي يعملن كقابلات في مستشفيات مختلفة في كابول. وهن بدورهن اخترن هذه المهنة بسبب رغبتهن في خدمة الآخرين ولا سيما النساء، ولأنهن علمن أن معظم وفيات النساء أثناء الولادة في أفغانستان هي نتيجة مضاعفات يمكن تفادي حصولها.

على الرغم من تحسّن الوضع بعض الشيء على مدى السنوات الماضية، إلا أن أفغانستان ما زالت تعاني من واحد من أعلى معدلات وفيات الأمهات والأطفال حديثي الولادة في العالم. ولذلك، فإن الحاجة إلى وجود رعاية متخصّصة أمر بغاية الأهمية. في سويسرا، تموت 5 أمهات مقابل كل 100,000 مولودٍ يبصر النور. أمّا في أفغانستان، فيقفز هذا العدد إلى 638 امرأةً تلقى حتفها، ولا يشمل هذا العدد بالطبع الأمهات الـ15 والأطفال الخمسة الذين لم تتسنى لهم فرصة القدوم إلى الدنيا، والذين أُرديوا قتلى بشكل ممنهج في جناح الأمومة حيث اعتدت أن أعمل قبل شهر.

يُعتبر انعدام الأمن أحد أكبر التحديات التي تواجهها كل قابلة وامرأة حامل في أفغانستان، وقد شهدت شخصيًا على هذا الواقع الأليم.

أنا مشرفة على القابلات في جناح الأمومة الذي تديره أطباء بلا حدود في مستشفى دشت برجي في كابول. وقع الهجوم هناك في 12 مايو/أيّار. كيف لي أن أنسى ذلك اليوم؛ كان الطقس جميلًا والهواء منعشًا، وشعرت بالسلام يعم كياني ما إن وطأت قدماي أرض المستشفى. بمجرد وصولي، رأيت زميلاتي يعملن؛ بدون جميعهن متلهفات ومتحمسات لبدء يوم عمل جديد في تقديم الخدمات والرعاية إلى النساء الحوامل المحتاجات. وصحيحٌ أننا اعتدنا على المآسي اليومية في مجتمعاتنا ولكن ما كانت أي منها لتجعلنا مستعدين بأي طريقة لمواجهة الرعب الذي يتربص بنا وينتظرنا.

في أفغانستان، يُعد جناح الأمومة أحد الأماكن القليلة التي تتولى النساء فيها القيادة. دخل الإرهابيون منطقة لا يُسمح فيها حتى للرجال بالتواجد. اقتحموا جناح الولادة مدجّجين بالأسلحة وراحوا يطلقون النار، فأودوا بحياة النساء الحوامل والأمهات والأطفال حديثي الولادة. لا بدّ أن قائدهم فخورٌ ومعتزٌ جدًا بهم؛ لا بدّ أنهم يحتفلون بالانتصار على جيش من الأطفال البالغين من العمر يوم واحد والنساء المسلحات بأردية المستشفى فقط.

من المُفترض أن يكون المستشفى مساحة محمية؛ هذا ما ينص عليه القانون الدولي الإنساني. ومع ذلك فإن الهجوم الذي طال جناح الأمومة حيث عملت ليس حالة استثنائية - فالهجمات على مرافق الرعاية الصحية تحدث مرارًا وتكرارًا هنا. ولكن ما الذي يميّز هذا الهجوم عن غيره من الهجمات؟

والإجابة هي أننا بصفتنا قابلات في أفغانستان، نحن قائدات من خلف الكواليس في بلادنا. نتواجد إلى جانب النساء الحوامل اللواتي يلدن مستقبل البلاد ولا بدّ من توفير الحماية لنا. إن حماية جناح أمومة مثل الذي عملت فيه يعني حماية كل من مستقبلنا وحماية القابلات. قابلات مثل مريم الحبيبة، التي قُتلت بغير سبب بينما كانت تمد يد العون إلى الأمهات اللواتي كنن يترقبن وضع مواليدهن.

في يوم الاعتداء الذي استمر أربع ساعات على جناح الأمومة في دشت برجي، لم يهاجم الإرهابيون النساء الحوامل والأطفال حديثي الولادة وحسب، بل طال بطشهم أيضًا عقودًا من العمل الجهيد للحد من وفيات الأمهات والأطفال حديثي الولادة في أفغانستان. بسبب هذا الهجوم، يستحيل اليوم على نساء المنطقة الغربية من كابول، والتي يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة، والنساء القادمات من محافظات بعيدة، الحصول على أي رعاية شاملة للتوليد ولحديثي الولادة.

بعد هذه الواقعة، فإن الخيار الوحيد المتاح أمامهن اليوم هو مستشفى قريب تبلغ طاقته الاستيعابية 50 سريرًا، سبعة منها فقط مخصّصة لخدمات الأمومة. ومع ذلك، لا أعرف ما إذا كانت النساء الحوامل اللواتي يقصدن هذا المستشفى، أو غيره من مستشفيات، سيتلقين الرعاية التي يحتجن إليها. هل سيحصلن على المساعدة اللازمة لهن؟ هل سيمتلكن الإمكانات المادية لتسديد نفقات المستشفى؟ هل سينجين من المخاض إذا لم تتسنى لهن فرصة دخول المستشفى؟

أخشى حتى التفكير بالمصائر المحتملة لهؤلاء النساء اللواتي كن سيلجأن إلينا لولا هذا الهجوم المشؤوم.

في كل شهر، اعتاد جناح الأمومة الذي تديره أطباء بلا حدود أن يقدم خدمات عالية الجودة إلى أكثر من 1,200 أمٍ تضع مولودها في رحابه. أعلم أنه إذا احتاجت النساء في منطقة دشت برجي إلى مساعدة في عملية الولادة، فسيقصدن المستشفى الذي يضم 50 سريرًا، ولكن إذا ظهرت لديهن أي مضاعفات، فسيمتنع هذا المستشفى عن استقبالهن. فلا يضمّ هذا الأخير مثلًا غرفة عمليات للحالات الطارئة. ومع جائحة كوفيد-19، فإن الخيارات المتاحة أمام اللواتي يعانين من مضاعفات أو احتياجات خاصة أضحت محدودة بشدة، وأكثر بعدًا كذلك.

تتحدّر معظم المريضات اللواتي يأتين إلى مستشفى دشت برجي من مجتمع الهزارة [2] ولا يملكن الموارد الاقتصادية لدفع تكاليف علاجهن في أماكن أخرى. هذا وتصل بعض النساء إلى المستشفى في ظروف شديدة.

أذكر مريضة واحدة على وجه الخصوص. أتت إلى المستشفى أول مرة خائرة القوى وبالكاد كانت تستطيع المشي وبدا وجهها شاحبًا للغاية. أتت من منطقة تقع في ضواحي كابول. فحصتها وأدركت أنها مصابة بفقر دم شديد. لم تتوفّر خدمات رعاية ما قبل الولادة في المنطقة التي كانت تقيم فيها. بسبب افتقارها للإمكانيات لشراء الطعام، لم تكن تأكل بشكل سليم، وعندما سألتها عن آخر مرة تناولت فيها الطعام، أجابت "بالأمس". على وقع هذه الكلمات تحطم قلبي، ولكنني شعرت بالسعادة فيما بعد لرؤيتها تتعافى وتضع طفلًا سليمًا.

وقصتها ما هي إلا واحدة من آلاف القصص التي تصف واقع حياة المريضات في منطقة دشت برجي، مريضات يأتي بعضهن إلى المستشفى من دون فلس واحد في جيبهن للعودة إلى المنزل.

كانت جميع مريضاتنا والمجتمع الأوسع نطاقًا سعداء للغاية بالاعتماد على جناح الولادة الذي يقدم الخدمات مجانًا، خصوصاً وأن المستشفيات الحكومية تتقاضى بعض المال مقابل خدماتها. يحزنني أن أرى كيف يحد الفقر، والافتقار إلى نظام صحي جيد، ونقص الموارد، وانعدام الأمن، وجائحة كوفيد-19، من فرص حصول الناس على الرعاية الصحية المناسبة. زد على ذلك أنّ مراكز الرعاية الصحية في كابول تعمل مسلوبة من بعض طاقاتها بسبب إصابة عدد من عامليها بمرض كوفيد-19.

لقد تأذيت. تغيرت حياتي ولكنني ما زلت ملتزمةً بمواصلة عملي. أعرف أن نساء شعبي بحاجة إلينا ويتوقعن مني النهوض بعد ما حصل بدعم من أطباء بلا حدود. لن أنسى كل هؤلاء المريضات اللواتي يحتجن إلى المساعدة ومستوى جيد من الرعاية. أنا اتشرّف بجميع هؤلاء المريضات اللواتي أصبحن صديقاتنا واللواتي يدعين لأجلي. لا أريد أن أخيب آمالهن، وبالأخصّ الآن، مع معاناة الكثيرين والكثيرات من جائحة كوفيد-19.

أرى شعبي يعاني من عقبات كبيرة، في خضم وضع حرج أصلًا - والحاجة إلى خدمات الرعاية الصحية لم تكن يومًا أكبر مما هي عليه اليوم.

__________________________________

* المشرفة على القابلات في منظّمة "أطباء بلا حدود" والتي كانت في جناح الأمومة في مستشفى "دشت برجي" يوم وقوع الهجوم.

[1]  موقع "ذا ورلد كاونتس"، 2020

[2] "جماعة الهزارة (مجموعة عرقية ناطقة باللغة الفارسية في أفغانستان) التي نقدم إليها الرعاية في غرب كابول هي من السكان المهمشين تاريخيًا وما زالت تعاني من الفقر. نزحت هذه الجماعة من موطنها الأصلي في الجبال في مقاطعات أفغانستان بسبب عقود من النزاعات الجارية. وعلى مدى السنوات العشر الماضية على وجه الخصوص، انتقلت ببطء إلى ما كان في الأصل مجتمع هزارة أصغر في كابول. نما عدد السكان بشكل كبير، من حوالى 200,000 في عام 2001 إلى ما يقرب من 1.2 مليون نسمة اليوم."

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم