الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

"زوج بغال" لبومدين بلكبير: تراجيديا الشرخ الجزائري- المغربي

المصدر: "النهار"
أسماء جزار- الجزائر
"زوج بغال" لبومدين بلكبير: تراجيديا الشرخ الجزائري- المغربي
"زوج بغال" لبومدين بلكبير: تراجيديا الشرخ الجزائري- المغربي
A+ A-

بومدين بلكبير، أستاذ باحث وروائي أثبت حضوره بقوة في المشهد الأدبي الجزائري، بالرغم من أنّه مقلّ في النشر. ويعود عمله الأول إلى سنة 2015، وهو مجموعة نصوص بعنوان "النصّ الأخير قبل الصمت"، عن "دار فضاءات"، تلتها روايته "خرافة الرجل القويّ"، عن "منشورات اختلاف وضفاف" سنة 2016 والتي كانت موغلةً في العمق الجزائري، وهذا لتناولها مواضيع: الصراع الهوياتي، اغتراب النخبة وزيف التاريخ مع العلاقة بين الشرق والغرب. في حين أنّ روايته الأخيرة "زوج بغال" الصادرة سنة 2018، انفردت بطرح مختلف، ولنقل جريء، وهذا بطرق بابٍ لا طالما ظلّ موصدا في تيمات الكتابة الروائية في المشهد الأدبي الجزائري، وهو العلاقات المتشنجة بين الجزائر والمغرب، والتي تحوّلت مع السنوات الى عداء انعكست أثاره على الشعبين الشقيقين.

"زوج بغال"، رمز القطيعة التاريخية. العنوان قد يبدو غريباً ومستفزاً لقارئ ليس من البلدين، بينما هو ليس إلا تسمية تحقيرية لمعبر الحدودي بين البلدين، لكأنه يريد أن يوصل للعالم رسالةً عن بلدين شقيقين حوّلتهما السياسة الى عدوّين لدودين. ويعود أصل التسمية، وفق المؤرّخ المغربي عبد الوهاب بن منصور، إلى أن عائلتين من مدينة "وجدة" المغربية نشب بينهما خلاف حول ملكية أرض، وحين تدخّل العقلاء لفضّ النزاع، توصّلوا إلى حلّ، وهو أن ينطلق رجلان على ظهر بغلين، واحد من الشرق وآخر من الغرب، ونقطة التلاقي هي التي يتم على أساسها وضع الخط الفاصل بين العائلتين، غير أنّها تبقى رواية ضعيفة بمقابل روايات أخرى، تلك المتداولة منذ الحقبة الاستعمارية بصفته نقطة التقاء سعاة البريد بين الجزائر والمغرب، بتبادل الرسائل بين الثوار.

تتعدد الروايات والتسميات وتبقى القطيعة راسخة بفعل حماقات الساسة والشعوب وحدها من تدفع ثمن تهوّر الأنظمة وطيشها: "اعتقد أنّ الشخص الذي أطلق تسمية زوج بغال على المنطقة، إما رجل أبله ضعيف الخيال، عجز مخياله عن الاتيان باسم مشرف من بين كل التسميات التي قد تكون متاحةً في هكذا موقف. أو أنّ الرجل ذكي وتفطن إلى مستقبل العلاقات بين الأخوين الذين سيتحوّلان إلى عدوّين لدودين، لذلك وصفهما بالبغلين لوضعهما البائس، وجهلهما المركب الذي أباح للقاصي والداني أن يركبهما كأبلهين استنزفا مواردهما وقواهما في صراع أبدي لا طائل منه (ص 105 "تطوان حائط الذكريات" لعبد القادر الركراكي التيطواني)، البوهيمي الذي ترك مقاعد الدراسة باكرًا، ليحتكّ بضراوة الحياة وقساوتها، من أجل أن يتكفّل بمصاريف عائلته الفقيرة، فكانت بداياته عتالاً بأحد الأسواق الشعبية. "تطوان" التي تماهى مع حركيتها وضوضائها ومعمارها الأندلسي، زُقاقها ومواخيرها حتي صارت أماً روحية لفرط ما علقت في مخياله، وعلى حبال ذاكرته العتيقة، فهي التي وهبته إخوة حقيقين وصداقات أنسته أيامه البائسة وزواجه الفاشل، فصار أكثر انفتاحًا وتقبلّاً لمن يختلفون عنه عقائدياً وعرقياً، فجمعته صداقة مع الشاب الاسباني ماريونو باكارو، وأيضاً بشاب يهودي صار رفيقه الحميم ويُدعي مومو حيون، الذي يحفظ له الكثير من المواقف المشرفة، كرفضه الالتحاق بالمدرسة الاسبانية للاحتلال التي كان يرتادها الكثير من الشباب اليهود، وأيضاً مقاطعته دعوات متكرّرة بالهجرة إلى اسرائيل، هذا ما جعله يكبر في عين عبد القادر، ويحترمه، وهو الذي كان يزوره في بيته ويشاركه الكثير من روتينه اليومي، وحتى طقوسه الدينية، حتى سافر إلى مرسيليا وانقطعت أخباره: "كانت أيامنا كلّها جميلة وملوّنة بالدهشة والفرح. كنا نتقافز ونجري ونتسكع في تلك الفضاءات الحرة، غير آبهين بما تخبئه الأيام لنا. لم نكن نفكّر بالمستقبل. جلّ ما كان يعنينا آنذاك هو أن نعيش اللحظة بكامل تفاصيلها.

رحيل مومو حيون إلى مرسيليا ثم انقطاع أخباره مع تراكمات أخرى، جعلت عبد القادر يتّخذ قراراً حاسماً في حياته بالسفر الى الجزائر سيراً والمشاركة في ثورتها التحريرية التي لطالما كان يسمع عن اجتماعات قادتها السرّيين في المغرب، لطلب الذخيرة، ناهيك بانتصاراتها المدوّية التي كانت آمال كلّ الشعوب المُستضعفة، معلّقة على نجاحها في دحر اعتى قوة استعمارية. وهكذا مضي عبد القادر في هذه المخاطرة، التي استمرت أياماً وليالي في البرية والوهاد، إلى حين بلوغ مدينة تلمسان، مروراً بمعبر زوج بغال الحدودي.

لم يحس عبد القادر نفسه غريبا في تلمسان نظراً للشبه الكبير بينها وبين تطوان في المعمار المورسكي، ولا الأزقة والأسواق، حتى في سخائها الباذخ لكأنه أحد أبنائها العائدين بعد غياب طويل. لم تكن مدينة آوته فحسب، بل حقّقت حلمه بالانضمام إلى صفوف الثوار والمشاركة في أهم العمليات الفدائية ضد المستعمر، إلى أن وقع في أيدي فرقة الكولونيل "شاربوني" المعروفة بالتعذيب الوحشي، لكن هذا لم يهزّ شعرة منه، وتلمسان أيضاً وهبته شريكة حياته "بختة"، السيدة المكافحة والمناضلة التي اختطفها الموت بعد ولادة عسيرة أدخلت عبد القادر في أيام كئيبة وحزن طويل: "أخذ يغزوني مد من الكآبة لا قبل لي به، كان أشبه بجيش من النمل الأحمر، آتٍ كي ينهي ما بدأته الحياة لما أخرجتني عارياً من جحيمها. فقدت الرغبة في كل شيء. كنت واهناً ومرتخياً، والأرض تدور بي، وكنت أشعر بالديدان تلتهمني من الداخل كأنني ميت".

رواية التصالح مع التاريخ والإنتصار لروابط الإنسانية هي "زوج بغال". نص متفرّد بين السرد ورصد تفاصيل مدن تقاوم الاندثار، فالمتعمّق في فصول الرواية يلاحظ اشتغال الكاتب على المكان كقيمة تعني الكثير للشخصية الرئيسية، بالإضافة إلى القواسم المشتركة بين المدن الثلاث تيطوان، تلمسان، عنابة، ودورها في اكتمال صورة البطل وحيواته المركبة، كما يشرّح تبعات مأساة مشتركة بين شعبين شقيقين تذكرنا بجدار برلين بين الألمانيتين وصراع الكوريتين، حيث تم التفريق بين عائلات وأشقاء وأصدقاء، وهي ذات التفاصيل تقريباً بحيث يتناولها الكاتب في شقّها الإنساني من دون الحفر في تفاصيل التاريخ والتواءات السياسة أو الاصطفاف مع طرف ضد الآخر، بل انتصر للقيم الانسانية، وفق رؤية الأستاذ بوداود عمير.

وصرح الروائي بومدين بلكبير في أحد الحوارات الصحافية، أنّ "الرواية في مقدورها أن تصلح ما أفسدته السياسة"، وبالفعل هكذا كانت فصول "زوج بغال" التي مدت جسور تآخٍ وكسرت ضبابية الصورة المشوّهة بعداءات اختلقها سياسيون بإظهار الجانب القوي من العلاقات الجزائرية - المغربية، والتي تُعد أكبر وأقوى من كلّ محاولات التشتيت والتفرقة التي مورست على الشعبين طوال عقود. 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم