سأسمّيه ميثم...

نبيل مملوك

من قال إنّ البلور وحده يعكس صورتنا؟ من قال إنّ الآخر بملامحه لا يمكنه النطق بما ينبغي التعبير عنه؟ منذ صغري، وأنا أكتم كل ما يدخلني من عواصف. أكتم ريح التمرد، أكتم موت زهر القوة بين أضعلي، وأكتم الدموع حتى أصل الى غرفة نومي بعيد الدوام المدرسي. كانوا ينتظرونني عام 2008 عند الساعة الثانية والنصف كي يضربوني فقط لأنني "طويل" فقط لأنّ اسمي وطولي مناسبان لأغنية مسجّعة بالسخرية والإهانة "نبيل طويل مربّع مستطيل/ نبيل كيف الطقس عندك/ بدي كسرك ع الحلّة"... أغنيات نضحك عليها، وقد تضحكون الآن لشدّة تفاهتها، لكنها كانت كالسكاكين تنخر جسمي الطريّ الغريب عن التجربة، المنتقل من مدرسة إرسالية يسودها السلام وحفظ الأمن "نوعًا ما"، إلى مدرسة خاصة...

كان من الصعب عليّ التأقلم، من السهل عليّ التستر عن هزائمي أمام أهلي، فصرتٌ شكليًّا جزءًا من عصابات الترهيب والتهويل... اتقنت لهجة القوة، اتقنت القاء التحيات بصوت عالٍ كونها التأشيرة التي تجعلني أنضمّ الى المتنمرين برغم أنّني لم اصطد معهم في الماء العكر...

مرت السنوات وظهر أمامي الحدث... مراهق لا يملك سوى التأوّهات، شعره الأشقر "الخنفسائي"، ملامحه البيضاء، نحيل كالفرص التي تهرب من الضياع، طريّ كتجاربي واندفاعاتي، محاصر تحت أرجل مَن يدعون الخشونة، يتلقّى الركلات أمامي، بغياب الناظرة، بغياب الوسائل الملائكية لإنقاذه. كنت بموضع الإنقاذ، لكن قشعريرة الذات حكمتني...رأيتني من خلال هزيمته،سمعتني من خلال اوجاعه وتوسلاته" خلص" " خلص" عجزت عن البكاء وعجزت انا ابن ال 17 خريفًا عن انقاذه بصرخة....عدت الى البيت، تصفّحت صفحات وسائل التواصل وكانت الصدمة.... اصراره على الحياة... اصراره برغم الكدمات المستوطنة في روحه على الضحك.... نكاته التي اعجبت أمي، تفاعل القلة معهم بدافع المحبة والحب... يُتمه هو الذي يمشي وعلى ظهره حقيبة من الخيبات والوحدة، يمشي منحي الظهر نحو المستقبل مترددًا... سأسميه "ميثم" كونه خطاً نحو السلام والخير، كونه بثقة يخطو نحو نفسه، نحو عفويته... ميثم بكل الحروف التي يعني ترابطها اللغوي، هذا الاسم النادر يسامح أو يتناسى، يذكرني بعجزي على العطف والمساعدة، يذكرني بأنّني المريض بجرثومة الألم، بجرثومة الماضي المشوّه من عصابات اتّخذتني ذات يوم شمّاعة تلقي عليه معطف فشلهم ومللهم... مثيم كان بعجزه يرسم أمامنا لوحة البقاء، لوحة الصبر، غيمة تذرف على رؤوس العاشقين مطر البكّائين المنعزلين عن صخب الكره والاستبداد.

سأسمّيه ميثم لأنّه الشرس الذي يجمع ألم الآخرين كالأيتام بين أضعله، لأنه حفظ بثقة وسلاسة صورتي الضعيفة، وذكرني بها بابتسامته العريضة، كم كنتُ عصيًا على التجاوُز.

ميثم يتابع كتاباتي، يصفّق لي حين أنشر مقالاً في جريدة عريقة كـ"النهار"، يبارك لي حين يجدّد المجتمع اعطائي لقب أستاذ، يضحك حين أكتب نكتة أو أعبّر عن موقف ساخر. ميثم باسمه المستعار الذي تريثت قبل منحه إياه كلما رآني في شوارع صور يلوح لي بحماسة. 

لم يقل لي أنني مثاله الأعلى. لم يقل لي إنّه يعتبرني الأخ الأكبر... لكنه قال الكثير حين راسلته ذات مرة وقلت له: "ما تزعل كرمال يلي بصير معك بالمدرسة.... انا كنت متلك انت بتشبهني كتير"، وقتها قال الكثير من الصمت، نزف التأمل، ابتسم من دون أن أراه، ووضع وفقًا لاسترجاعي للحدث قلبًا يختصر كل المطولات... وضع ذنبه، وضع تهمته التي يعاقب عليها حتى الآن... ربما.

سأسميه ميثم لأنه يستحقّ هذا الاسم، لأنه يحارب هذا الاثم... سأسميه مثيم واستعير ما قاله مارسيل خليفة عن لسان شوقي بزيع، وأقول إنّني في كل قصة أو مقال "سأحدّثكم عن ميثم/ عن فرح الآهات الخالد في خديّه/ عن وجع كفيه..."، كفاه اللذان حملا ذنبًا واحدًا... ذنب الطيبة والضياع.