الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

قانون رفع السرية المصرفية... مجمّد حتى إشعار آخر سحب يد القضاء وحصره بهيئة الفساد غير الموجودة أصلاً

منال شعيا
منال شعيا
A+ A-

ليس جديداً على لبنان ولا على السلطة التشريعية أن "تحوّر" القوانين لحظة إقرارها. وليست المرة الأولى بالطبع التي يتم فيها الانحراف عن الغاية الأساسية من القانون، أو المماطلة في إقراره.

هذا ما حصل في اقتراح قانون رفع السرية المقدم الى مجلس النواب، منذ ما يزيد على السنة، قبل أن تخطو الهيئة العامة في جلستها الاخيرة في 28 أيار الفائت، نحو اقراره، انما "بطريقة تحويرية"، لا بل بشكل يفقد القانون من صلب غايته الاساسية. فما الذي جرى؟

قصة رفع السرية المصرفية في القانون ليست بجديدة. اذ من المعلوم ان قانون سرية المصارف الصادر عام 1956 وقانون مكافحة تبييض الأموال الصادر عام 2015، كانا يلحظان حالات خمس فقط ترفع فيها السرية المصرفية حصراً، وبالتالي تتمكّن المصارف من إفشاء معلومات متعلقة بزبون ما.

ومن المعلوم أيضاً أن "تكتل لبنان القوي" كان تقدم باقتراح قانون لرفع السرية المصرفية في 5 آذار 2019، ولاحقا اقدم النائبان سامي الجميل وبولا يعقوبيان الى تقديم اقتراح قانون آخر، "لتصحيح بعض الثغرات" في القانون الاول، وفق ما فسرّ حينها الجميل ويعقوبيان.

كان الاقتراحان يهدفان الى عدم استثناء مبدأ السريّة المصرفيّة بالنسبة إلى الوزراء والنواب والموظفين والقضاة والعسكريين ورؤساء وأعضاء الهيئات القضائية والناظمة والإدارية على اختلاف أنواعها والمراقبين والمدققين الماليين وكل من يقوم بخدمة عامة، فيما ذهب اقتراح الجميل ويعقوبيان الى حد المطالبة بشمول "الجمعيات السياسية ايضا ورؤسائها وأعضاء هيئاتها الإدارية وأزواجهم وأولادهم القاصرين، كما المستشارين المعيّنين في الإدارات والوزارات والمديريات، والمناقصين والمتعهدين وكل من يبرم مع الدولة صفقة عمومية أو عقد شراكة، من رفع السرية المصرفية".

ووفق القانون، فإن الحالات الخمس التي كانت ترفع فيها السرية المصرفية هي:

■ في حالة تقديم إذن خطي من صاحب العلاقة موقعّ لدى الكاتب العدل، يحدد فيه: هويّة الشخص الذي بإمكانه أن يرفع السريّة المصرفيّة، وارقام الحسابات.

■ في حالة الإفلاس.

■ في الدعاوى المتعلقة بنزاع حول معاملة مصرفية بين المصرف والزبون.

■ في دعاوى الإثراء غير المشروع حيت تتحرك النيابة العامة.

■ في إطار مكافحة تبييض الأموال ضمن هيئة التحقيق الخاصة.

منع القضاء

هذا في قانون عام 1956. أما ما جرى في الجلسة التشريعية الاخيرة، فهو "انقلاب" على جوهر الاقتراح، أو بالاحرى على الهدف الاساسي منه، بحيث تمّ سحب حق رفع السرية من القضاء.

هكذا، ببساطة، ولحظة التصويت داخل الهيئة العامة، "نزعت" هذه الصلاحية من يد القضاء، بطلب من رئيس مجلس النواب، ومرّ النواب على هذا التعديل مرور الكرام، على الرغم من اعتراض الجميل.

والسؤال: إذا كان القضاء لا يستطيع رفع السرية المصرفية فمن سيرفعها؟ وأليس في الأمر انتقاصاً من صلاحية القضاء ودوره؟ لقد أعطى القانون الاخير هذا الحق الى هيئة مكافحة الفساد، التي لم تعيّن أصلاً. باختصار، فإن قانون رفع السرية مجمد حتى اشعار اخر، وصلاحية تنفيذه أعطيت الى هيئة غير موجودة اصلا حتى الساعة. إنها "من العجائب السبع"!

والى أن "يفرج" عن هذه الهيئة، التي يؤمل أن تكون بعيدة من "صبغة" التعيينات التي تحصل اخيرا، يبقى رفع السرية المصرفية موقفاً إعلامياً لا اكثر، لا سيما أن تقييد رفع السرية المصرفية في حالات خمس يجعل عملية تتبّع الاموال، ولا سيما منها الاموال غير المشروعة أمراً مستحيلاً، لا سيما في ظل "نشاط" تببيض الاموال. وتالياً، لا "يُغرّنّ" أحد بهذه الخطوات، التي اصلاً اتت متأخرة، ولا تفي بالغرض المطلوب. كما ان الجميع يعلم ان الرؤوس الكبيرة تضع أموالها بأسماء اشخاص غيرها، فهل هم يضحكون على الشعب أم على انفسهم؟!

في 17 تشرين الاول الفائت، وبعد "الزلزال" الشعبي الذي أحدثته الانتفاضة يومها، تناوب عدد من المسؤولين، وزراء ونواباً وبعض الرؤساء، الى الاعلان عن نيتهم رفع السرية المصرفية عن حساباتهم. هكذا، تداعى عدد منهم الى الاعلان عن هذه الخطوة، في حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعي. وكأن في الامر انجازا.

والغريب في الامر، ان عددا لا بأس منهم، كان قد اقدم على هذه الخطوة، في السابق، من دون اي ترجمة عملية لها او مفعول، وكأن في محاولة التكرار "إصراراً إعلامياً – استعراضياً" لا اكثر.

... وبعد، لا ينسى احد ولا يحاول الهاء الشعب بعناوين مثل قانون استعادة الاموال المنهوبة، لان في هذا القانون بالذات، (والموجود في مجلس النواب منذ عام 2017) وفي متن مواده ومضمونه، لا مسّ بالرؤساء والوزراء، انما فقط ببعض الموظفين.

ومرة جديدة، يتبين ان الاصلاح الفعلي والمحاسبة الجدية يبدآن من تعديل اساسي ينبغي ان يسارع مجلس النواب الى اقراره، وهو تعديل عمل المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي يحتاج الى ثلثي مجلس الوزراء وثلثي مجلس النواب... لانه لا تنقصنا قوانين، لا سيما في ظل قانون الاثراء غير المشروع، الذي يشكل الارضية القانونية لمكافحة الفساد، بل المطلوب الترجمة العملية. اذ حتى ولو سلّمنا جدلاً بإمكان رفع السرية المصرفية عن الرؤساء والوزراء، فأي آلية ممكنة لمحاسبتهم وسط تقييد عمل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء؟ وعن اي محاسبة واستعادة اموال ورفع سرية يتحدثون... كل هذه الامور لن تتم إلا عبر سلطة مستقلة، لأن لا احد يدين نفسه! وإقرار قانون رفع السرية المصرفية وتحويره في اللحظة الاخيرة، اكبر دليل.

[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم