من منيابوليس إلى "لولو"... "كِلْ حِكِم بالأرض باطل"

سمير قسطنطين

ظنّ البعض في الولايات المتّحدة الأميركيّة أنّ الاحتجاجات التي قادَها القس الأسود مارتن لوثر كينغ جونيور في العام 1963 للمطالبة بالحقوق المدنيّة لإنهاء العزل العنصري بعد عشرات العقود من ممارسته، قد وَضَعَت حدّاً لتاريخٍ من الجروح بين البيض والسود. واعتقدَت أميركا لوهلة أنّها خرَجَت ممّا يثير فيها النعرات، واعتَبرَت أنّ النظام بمعنى الـ System هو أقوى من أن يخرجَ عليه أو يبقى خارجه أيُّ شخصٍ أو مجموعة. لعلّ أميركا خمّنَتْ أنّ ما حدث من أعمال شغبٍ عارمة في العام 1968 زمن الانتخابات الرئاسيّة آنذاك قد انتهى. ورأَت أنّ ما برّر الشَغَب في ذلك الحين كان سقوط عشرات آلاف القتلى من الجيش الأميركي في حرب فيتنام العبّثيّة، الأمر الذي لم يعُد موجوداً هذه الأيّام. وللتاريخ، يجب أن نذكر أنّ هذه الأحداث الكبيرة أعقَبَتْ إغتيالَيْن مُدوّيَيْن، الأول طال قائد حركة التغيير آنذاك مارتن لوثر كينغ جونيور، ومن بعده السيناتور الديمقراطي روبرت كينيدي الذي خلَفه في قيادة الحملة. في ذلك الشتاء رفض الأميركيّون انتخاب هيوبرت هامفري الذي كان نائباً لليندون جونسون، الرئيس الذي حاول قمع التظاهرات، وانتخبوا ريتشارد نيكسون، الرئيس الجمهوري.

في العام 1979، كان جيمي كارتر يختم ولايتَه الأولى راغباً في التجديد، وكانت أميركا تحاول الخروج من تداعيات أزمة انقطاع النفط في السبعينات وطوابير السيّارات على محطّات البنزين، وكان كارتر غارقاً في معالجة أزمة الرهائن الأميركيّين في سفارة بلادهم في طهران. في ذلك الوقت، اعتبر الأميركيّون أنّ معالجة كارتر غير مُجدية، فانتخبوا في العام 1980 رونالد ريغان الرئيس الجمهوري أيضاً.

منذ ذلك الحين مرَّت أميركا في امتحاناتٍ عدّة كانت "تزمط" منها كلّها. في معظم هذه الامتحانات كان شرطيٌّ أبيض يقضي على رجلٍ أسود أعزل من السلاح وبطريقة وحشيّة.

لم تكفِ مئات مليارات الدولارات التي أُنفِقَت على تدريب رجال وسيّدات الشرطة في العقود السبعة الماضية لجعلِ العنف ينتفي من سلوكيّات الشرطة بشكلٍ عام، وباتّجاه العرق الأسود بنوعٍ خاص. ولعلّ المشهد المخيف الذي رأيناه الأسبوع الماضي حين خنق رجلُ شرطةٍ أبيض الرجلَ الأسود جورج فلويد يؤشّر إلى كون العنف ضدّ السود ما زال مترسّخاً في مؤسّسة الشرطة.

هناك حادثُ خنقٍ مماثل حصل قبل ستِّ سنوات في جزيرة ستاتن في نيويورك. حينها ماتَ رجلٌ أسود اسمه إريك غارنر خنقاً. منذ ذلك الحين يبدو أنّ شيئاً لم يتغيّر. حادثة مقتل إريك غارنر، وهو أميركيٌّ من أصول إفريقيّة، وَقَعَت في تمّوز 2014. عند محاولة رجال الشرطة اعتقال غارنر حاول الأخير مقاومتهم ما دفع بالشرطي جاستن داميكو إلى طرحه أرضاً، وضغطَ على رقبته وهو المصاب بالرّبو. غارنر لم يستطِع أن يتنفّس فتوفّي. وتجدّدت المظاهرات احتجاجاً على الحادثة بعد مقتل الشاب مايكل براون برصاص شرطيٍّ في فرغسون بولاية ميزوري في شهر آب من العام نفسه.

إدارة الرئيس أوباما كانت قد طرحت مشروع إصلاح مؤسّسة الشرطة. المشروع كان شاملاً ومتكاملاً.

عند كلّ حادثٍ أو منعطفٍ مماثل، وقد حصل ذلك عشرات المرّات، يستعيد السودُ الظلمَ التاريخيَّ الذي لحقَ بهم وَهُم لا يشعرون أنّ المساواة بينهم وبين البيض من خلال حركة الحقوق المدنيّة رفعت هذا الظلم، بل يرون أنّهم يريدون أكثر. الحقائق الميدانيّة تضيء على حيثيّاتٍ مهمّة. فوفقاً للاحصاءات المعلنة، فإن العام 2019 وحدَه، شهد مقتل 1004 أشخاص على أيدي رجال الشرطة الأميركيّة، نسبة السود بينهم تبلغ 250% نسبة البيض. في معظم هذه الحالات لا تتمّ مقاضاةَ رجالِ الشرطةِ على فعلتِهم بالقساوة التي يتمنّاها أهل الضحايا.

الأزمة الاقتصاديّة زادَت الطينة بلّة. فبسبب فيروس كورونا، فقَدَ أربعون مليون شخص وظائفهم، وهو رقمٌ قياسيٌّ منذ كساد الحرب العالميّة الثانية الشهير. كذلك فإنّ نسبة الوفيّات بين السود الأميركيّين بسبب كورونا تفوق ثلاثة أضعاف نسبة الوفيّات بسبب هذه الجائحة بين البيض. تفاقمُ الأزمة الاقتصاديّة قد يفسّر إنضمام بعض البيض الغاضبين من الحزبِ الديمقراطي إلى السودِ الغاضبين للسبب ذاته.

في لحظاتٍ كهذه يصعب التنبّؤ عن موعد انتهاء هذه الاحتجاجات والعودة إلى الـ status quo. وفي نظامٍ كالنّظام الأميركي يصعب القول منذ الآن ما إذا كانت هذه الاحتجاجات ستطول، وما إذا كانت ستؤتي تغييراً مُستداماً في الهيكليّات السياسيّة والاجتماعيّة وإن كان كلُّ شيءٍ في مايةٍ وأربعين مدينة أميركيّة يشي بحتميّة تغييرٍ معيّن.

أميركا عانت وتعاني من أزمتَيْن تاريخيّتَيْن هما العبوديّة للسود وإلغاء ثقافة سكّان أميركا الأصليّين الذين كنّا نسمّيهم "الهنود الحمر". السكّان الأصليّون كانوا طالبوا بحقوقهم ضمن معايير أعدادهم وفي زمنٍ لم يكن الإعلام مؤثّراً كما هو الآن. الدولة أعطَتْهم شيئاً من الحقوق. لكنّ السود أكبر عدداً وأكثر تعبيراً وربّما أقسى تعبيراً. خطيئة أميركا الكبيرة هي أنّها لم تَتُب عن هاتَيْن الخطيئَتَيْن. كلُّ ما فعلَتْه كان نوعاً من غسيل الصحون أو الثياب. لم تعالج أميركا هاتَيْن المُعضلَتَيْن في العمق، وفي كلِّ حالٍ ليس سهلاً أن تفعل ذلك.

الذين يعرفون نمطَ التفكير السياسي والمجتمعي في الولايات المتّحدة، فإنّ هذه الاحتجاجات لم تفاجئهم. هُم كانوا يدركون أنّها قادمة وأنّ وفاة جورج فلويد لم تكن أكثر من الشعرة التي قَصَمت ظهر البعير. أضف إلى ذلك، الشعور المزمن بالغبن الذي قد يكون أكبر من حجم الغبن عينه. كلّ هذه المعطيات أدّت إلى ما أدّت إليه. طبعاً كثيرون يركبون موجة العنف، وبعضهم من البيض. ساهم هؤلاء في أعمال السرقة والنهب التي خرَجَت عن المألوف، وأساءَت إلى مطالب المحتجّين المحقّة.

السؤال الذي يخطر ببالي الآن هو: "هل هذه الأحداث هي أحداثٌ عابرة أم هي ذات تأثير دائم"؟ الإعلام الأميركي نجَح في نقل ما يجري في الشارع على امتداد أربعٍ وعشرين ساعة في اليوم، لكنّه لم ينجح حتّى الآن في جعلِ أشخاصٍ قياديّين يطرحون بدائل. كذلك لم يتطرّق الإعلام بالشكل الكافي إلى خسارة أميركا لما نسمّيه الـ Moral Edge، بحيث لا يمكن للولايات المتّحدة بعد الآن أن تعظ العالم حول الحريّات والديمقراطيّة. هناك تسعة آلاف وستماية معتقل حتّى الآن من بين المتظاهرين المشاغبين. سقف الكلام المتداول بين المفكّرين هو إصلاح النظام القضائي وأنّ سلوكيّات بعض رجال الشرطة غير مقبولة. الأمر لم يذهب حتّى الآن أكثر من ذلك.

لكن وسط هذا الغموض في سياق مآل الأحداث هناك شيءٌ مؤكّد وهو أنّ انتخاباتٍ رئاسيّة ونيابيّة قادمة لا محالة بعد خمسة أشهرٍ في الولايات المتّحدة. فمع أنّ الخلاف بين الحزبَيْن يتّخذ منذ عهد أوباما طابعاً أيديولوجيًّا حادًّا تعمّقّ مع انتخاب ترامب رئيساً وبات يقسم الشعب الاميركي عموديًّا، يمكن القول أنّ الانتخابات ستكون شكلاً من أشكال الاستفتاء على كيفيّة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للأزمة الراهنة. فإذا أراد الأميركيّون رئيساً لبلادهم يأخذ شكل رجل أعمالٍ يعنيه تطبيق القانون والنظام أكثر ممّا يعنيه أيّ أمرٍ آخر، أعتقد ساعتها أنّ الأميركيّين سيجدّدون انتخابه رئيساً. وإذا اعتبر الأميركيّون أنّ إدارة ترامب لأزمة وباء الكورونا لم تكن فعّالة، وأنّه غير قادر على توحيد بلادٍ غاضبة ومنقسمة على ذاتها، فإنّ الأميركيّين لن يجدّدوا لترامب.

في هذه الأزمة أراد دونالد ترامب أن يركن من جديد إلى قاعدته الأساسيّة وهي الإنجيليّين البيض. ومن هنا نستطيع أن نفهم ذهابه إلى كنيسة قريبة من البيت الأبيض تعرّضت للحرق الجزئي بسبب الاضطرابات حاملاً نسخة من الإنجيل، بعد أن استخدم ضبّاط إنفاذ القانون الغاز المسيل للدموع والرصاص المطّاطي لفتح الطريق أمامه للسير إلى هناك عقب إدلائه بتصريحاتٍ في حديقة الزهور بالبيت الأبيض. هو يريد أن "يشدّ العصب" إذا جاز التعبير. لا يتردّد ترامب في الظهور كرئيسٍ تصادميٍّ أي Confrontational.

كثيرون يرون في تصرّفات ترامب معاداةً للسود، ويرون في المقابل معاداةً من السود وسائر الديمقراطيّين تجاهه. ويرى كثيرون من أضدادِه في هذا الظرف بالذات لحظةً نادرةً لتفجير غضبهم ضدّه. لكن في الواقع، فإنّ نسبة البطالة لدى الأميركيّين السود لم تنخفض يوماً كما انخفَضَت في عهد ترامب، وهذه نقطة تُحسب له. إلّا أنّ ترامب لم يساعد نفسه كثيراً في بعض التغريدات. فهو ساوى بين طلب العدالة لجورج فلويد وبين ضرورة وقف الفوضى. في إحدى التغريدات لقّبَ المشاغبين بعبارة THUGS أي "الزعران". وكتب الكلمة بحروف كبيرة. لعلّ الدهاء السياسي كان يتطلّبُ منه أن يتحدّث أكثر عن العدالة. هو تحدّث عن حماية الممتلكات كثيراً وعرض نشر "الحرس الوطني" وحتّى الجيش لقمع التظاهرات.

اللبنانيّون الذين لا يحبّون سياسة أميركا في الشرق الأوسط وفي بلدهم يشمتون ممّا يحصل هناك. يعتبرون أنّ الله "يعذّب" أميركا التي "عذّبتنا". هُم لا يدركون أنّ التغيير في أميركا، غالباً ما يبدأ في جماعات الضغط وهيئات المجتمع المدني. لكن ومهما عظُمَت حركة الشارع في أميركا، فإنّ التغييرَ يحصلُ في مكانٍ واحد هو المؤسّسات الدستوريّة.

في هذه اللحظات يحضرُني الخالدان منصور وعاصي الرحباني في مسرحيّة "لولو" التي جسّدت انكسار الحلم. تقول فيروز (لولو) في كلماتٍ من ذَهَب وبوجعٍ كبير: "العدالة كرتون.. الحرّية كذب .. صار الحبس كبير.. وكل حكم بالأرض باطل ... حَلّو يِطلعْ الضو...".