الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

"أرخص ليالي"...عبثية في الكتابة القصصية

المصدر: النهار
نسرين بلوط
"أرخص ليالي"...عبثية في الكتابة القصصية
"أرخص ليالي"...عبثية في الكتابة القصصية
A+ A-

بما أنّ فنّ القصة القصيرة يتأرجح بين التجريد والتحريض والإحاطة الكاملة بأطول حبكة وأقصر تعبيرٍ عنها، لتتراءى كسبائك الذهب التي تلمع تحت النور فتبرز جمالياتها وعيوبها، يظلّلها الإطار الزمني والمكاني لها في إغواءٍ فريدٍ للمتلقي، فقد تجاوز الروائي يوسف ادريس من خلال مجموعته القصصية "أرخص ليالي" الخطوط الحمر لاستيفاء عناصر القصة، لاغياً عنصري التأسيس والتجنيس، مقيّداً باللامحسوس الذي يهيمن على زمهرير الحدث المدوّي رتابة، في خلخلةٍ ملحوظة بين قصة وقصة.

في هذه المجموعة يفصل ادريس بين الليالي الرخيصة والباهظة، معلّلاً الانحدار السحيق الذي وصل إليه اقتصاد مصر بسبب الإنجاب الكثيف الذي أدّى إلى انفجار هائل في عدد السكان.

وبما أنّ إدريس حاول مراراً الإكثار من المشاهد الاستطرادية في مجموعته، مع دعم نصوصه باللهجة المصرية المحكية ليجعلها أقرب إلى قلب القارئ، فقد كثّف من التعليل والسببية التي تترجم حالات الفوضى السائدة واللامعقول الذي ينتج عن اللامبالاة. فمثلاً في حكاية "نظرة"، يُبرز لنا ادريس الوجه التراجيدي من المجتمع من خلال طفلة تحمل صينية البطاطس على رأسها، تهمّ باجتياز الطريق وهمّها يمحو معالم البراءة من وجهها الصغير، يخاف الراوي عليها ويهمّ بملاحقتها وقد رأى سيارة عابرة مسرعة تهمّ بأن تصدمها، ولكنه يفاجأ بأنّها عبرت الشارع بيسر وثبات، ووقفت على الناحية الثانية من الرصيف تراقب الأطفال وهم يلهون بالكرة: " ولم تلحظْني، ولم تتوقَّفْ كثيرًا، فمن جديدٍ راحت مخالبُها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف، استدارت على مهَل، واستدار الحِملُ معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة، ثم ابتلعتْها الحارة"

في حكاية "عالماشي"، قصة محامٍ يسافر في الأوتوبيس الصحراوي عائداً من الاسكندرية، يعرف جاره الذي يجلس إلى جواره مهنته، فيبدأ بطرح أسئلته الكثيرة حول المشاكل القانونية التي يعاني منها، مستغلّاً استفراده به، ويتنفّس الصعداء عندما ينزل الراكب في المحطة التالية فينتقل للجلوس إلى جانب شخصٍ آخر، ويصف ادريس الحالة بما يلي:" ورغم أن الدنيا كانت قيظًا، والعربة أصبحت كالفرن الذي ليس له مدخنة، والغبار من كثرته صار له لسع الناموس، وأزيز الذباب، والمقاعد عليها بحور عرق في وسطها ناس، رغم هذا فقد استراح الأستاذ لصمت الجار الراحة كلها، وأحسَّ بقلبه ينعنشه ثلج بارد".

ومع أنين صوت عجلات العربة، حدث تبادل حديثٍ خفيف بينه وبين جاره فعرف أنّه طبيب، فانتهز الفرصة وراح يشكو له عن الآلام التي يتكبّدها في جسده ويحاول أن ينتزع منه وصفة دواء لحاله، وهكذا انقلبت الأدوار فأصبح هو نفسه مصدر ازعاجٍ لجاره الطبيب.

لا يوجد في هذه المجموعة القصصية رصدٌ للبيئة القروية والريفية والمصرية التي اعتاد ادريس تكثيفها في رواياته، وهو الذي اعتمد على الأسلوب التصويري الذي لا يكتفي بترقيع الحدث بل بصقله بمجهر الحقيقة بإيديولوجية عميقة لا تتصنّع المشهد. أمّا الإيحاءات الرمزية فتكاد تنعدم ما عدا تركيزه على إظهار جانب العوز والجوع والفقر في البلد، وشحنه انفعالاته بعباراتٍ حادّة مستنكرة، وقد هبط هبوطاً حادّاً في التعبير والقص والتفنّن بالسرد في هذه المجموعة القصصية، وكأنّه كتبها لمجرّد الترويح عن همومه وتساؤلاته الشخصية، متناسياً عمق هذا الفن الحديث في إظهار البنية التحتية لمجتمعه، وقد أفرط في القواعد التنظيرية وأمعن في التقاط صورٍ معيّنة عبثية لنماذج من البيئة المصرية، لم يستطع أن يوصل من خلالها الهدف المنشود ككاتب، أو يصل لتحليلها بفلسفةٍ مقنعة، ويبقى صاحب رواية "الحرام" الأكثر جدلاً بإرثه الأدبي الروائي الضخم مصدر إلهامٍ للعديد من الروائيين والكتاب العرب.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم