الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

... لكنْ ماذا عن "سركيس سركيسيان"؟ ولماذا؟

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
... لكنْ ماذا عن "سركيس سركيسيان"؟ ولماذا؟
... لكنْ ماذا عن "سركيس سركيسيان"؟ ولماذا؟
A+ A-

نشرتْ لي "النهار" في عدد الأربعاء، 27 أيّار 2020، مقالًا عنوانه "لأ. مش سنفريان"، تعليقًا على أغنية "سنفرلو عَ السنفريان" للفنّان الكبير فيلمون وهبة، التي انتزعت ماضيًا – ولا تزال تنتزع إلى اليوم - الكثير من القهقهات والنكات والقفشات، ممزوجةً بالكثير من السخرية والهزء حيال أسياد الوضع اللبنانيّ. الأغنية تنكأ أيضًا الكثير من الجروح والأوجاع، بسبب أحوال لبنان وأهله، الكارثيّة، سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا واجتماعيًّا و... مصيريًّا.

للتذكير: أغنية "سنفرلو عَ السنفريان"، ساخرة، عابثة، مستخفّة، لامبالية، من دون أنْ تتّخذ كلماتها "موقفًا"، أو تطلق حكم قيمةٍ، ممّا يعانيه المواطن، سوى "السنفرة"، أي "المعليشيّة" القَدَريّة، التي تطنّش، وتبلع، وتبسّط، وتقبل بكلّ شيء، وتسلّم بالأمر الواقع. هي إذًا، أغنيةٌ هازئة لكنْ غير تحريضيّة، إذ تكتفي بالتلطيش على ما يجري، من دون أنْ تدعو مباشرةً، وبوضوحٍ، إلى التعبير عن الغضب والرفض والاحتجاج والمواجهة والثورة، لكسر الجدار المأزوم في الوضع القائم.

أتدارك، فألفت القارئ إلى أنّ "السنفرة المَعلَيشيّة" لدى فيلمون، تنجح إلى أقصى الحدود، في تأدية وظيفتها التي تَخِز، وتعضّ، وتعقص، وتحقّق الغاية السياسيّة – الاجتماعيّة، الساخرة، المتهكّمة، المزدرية، وهي الغاية المرجوّة منها، شكلًا ومضمونًا.

بالتزامن مع نشر المقال، أرسلَ إليَّ زميلٌ كبيرٌ "يوتيوبًا" يتضمّن أغنية فيلمون الشهيرة، "سركيس سركيسيان"، التي أدّاها في العام 1982، خلال حفلٍ جمعه وجورج وسّوف في فندق البوريفاج، حيث حصدت الأغنية، يومذاك، ومنذ ذلك الزمن، نجاحًا "جماهيريًّا"، قد لا تكون حصدته أغنيةٌ شعبيّةٌ – شعبويّةٌ أخرى، لأيٍّ من الفنّانات والفنّانين، والمطربات والمطربين.

للعلم والخبر: لا تزال "سركيس سركيسيان" تحصد، إلى يومنا هذا، أعدادًا هائلةً من المستمعين، لكونها مرآة الوجع والعذاب والقهر والظلم الذي يعانيه الشعب اللبنانيّ على أيدي سياسيّيه وحكّامه وأولياء أموره. فهي تعبّر أبسط تعبير، وأعمقه، عمّا يختلج في الوجدان الجمعيّ، ماضيًا وحاضرًا (... ومستقبلًا بالتأكيد) من مشاعر الازدراء والقرف والهجاء والاحتقار المقذع، وعمّا يستخدمه الجمهور من عبارات التقريع والسباب الدونيّة (والبذيئة والسوقيّة) حيال الطبقة السياسيّة برمّتها.

كان ذلك في شتاء العام 1982، وهو العام الأخير من عهد الرئيس الياس سركيس، الرجل الذي عانى على يد الطبقة السياسيّة ما قد يعانيه القدّيسون، فحمل عنوان الأغنية اسمه.

إنّه العام 1982. وما أدراك أيّها القارئ الكريم بالعام 1982، وويلاته، ومآسيه، التي نزلت بقضّها وقضيضها على لبنان ومواطنيه، ومنها في بدايات صيف ذلك العام، الاجتياح الإسرائيلي الصهيوني، وصولًا إلى بيروت.

لكن لماذا؟ لماذا حصدت "سركيس سركيسيان" هذا النجاح الشعبيّ – الشعبويّ - الجماهيريّ غير المسبوق؟

لأنّ الناس – أوّلًا - ما عاد في مقدورهم، آنذاك، أنْ يتحمّلوا ما يتحمّلونه من أوضاعٍ مأسويّةٍ "على الأرض"، حربًا وقصفًا ومتاريس وحواجز طيّارةً وقتلًا وتهجيرًا وتشريدًا وتفقيرًا وتجويعًا، وممّا كان يوازي تلك الأوضاع، بل يتفوّق عليها، من إرهاب الطبقة السياسيّة، وانحطاطها، وقذارتها، وصغائرها، ودناءاتها، واقتتالاتها، وانعدام وجدانها.

ولأنّ الأغنية – ثانيًا – تتخطّى كلّ الحدود المرسومة للأغنية النقديّة الساخرة الهجائيّة، وتختار في لحظةٍ ما، أنْ "تبجّ" اللغة "بجًّا"، وأنْ تستخدم عباراتٍ "من الزنّار ونازل".

ولأنّ فيلمون - ثالثًا - لا يتورّع في الأغنية عن تسمية هؤلاء السياسيّين بأسمائهم، علنًا جهارًا، من رئيس الجمهوريّة، إلى رئيس مجلس النوّاب، إلى رئيس الحكومة، إلى الزعماء كافّة، يمينًا ويسارًا، مسلمين ومسيحيّين، حاليّين وسابقين، وإلى قادة الميليشيات والأحزاب، من دون أنْ يترك أحدًا "يعتب" عليه، من الصفّ الثاني، أو الثالث، أو الرابع.

تسمّي الأغنية: سركيس سركيسيان (كنايةً عن الرئيس الياس سركيس)، فرنجيّة سليمان (كنايةً عن الرئيس السابق)، شفيق الوزّان (رئيس الحكومة آنذاك)، كامل أسعديان (كنايةً عن رئيس مجلس النوّاب آنذاك كامل الأسعد)، صائب صائبيان (كنايةً عن رئيس الحكومة سابقًا صائب سلام)، رشيد كراميان (كنايةً عن رئيس الحكومة سابقًا رشيد كرامي)، الجميّل أخوان (كنايةً عن رئيس حزب الكتائب اللبنانيّة الشيخ بيار وولدَيه الرئيسَين لاحقًا أمين وبشير)، شمعون شمعونيان (كنايةً عن رئيس الجمهوريّة سابقًا ورئيس حزب الوطنيّين الأحرار كميل شمعون)، جنبلاط جنبلاطيان (كنايةً عن قائد "الحركة الوطنيّة" والزعيم الدرزيّ ورئيس الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ وليد جنبلاط، الأباتي نعمان (بولس، الرئيس العامّ للرهبانيّة اللبنانيّة وأحد قادة "الجبهة اللبنانيّة")، برّي بربريان (كنايةً عن زعيم حركة "أمل" ورئيس المجلس لاحقًا نبيه برّي)، إذاعة بشير (الجميّل، "إذاعة لبنان الحرّ")، إذاعة ابرهيم (قليلات، زعيم "المرابطون" وإذاعة "صوت لبنان العربيّ")، شاكر بو سليمان (رئيس الرابطة المارونيّة)، خولة (الأميرة) ومجيد أرسلان (الأمير والزعيم الدرزيّ)، خاتشيك بابيكيان (نائب ووزير أرمنيّ)، سيرون خَرَنيان وأيرون أيرونيان (استخدامان مرجّحان بسبب القافية، وتعزيزًا لرنينها الموسيقيّ)...، وأسماء آخرى مركّبة بطريقةٍ تهكّميّة مثيرةٍ للضحك.

على قفلة "يان"، وإيقاعها الموسيقيّ الطربيّ الهازج والرنّان، ينهش فيلمون لحم هؤلاء السياسيّين، ويفضحهم، ويفنّد أعمالهم ومواقفهم وارتكاباتهم، ويعرّيهم، و"يجرّمهم"، واصلًا إلى ذروة التصعيد اللغوي والتعبيريّ، مستخدمًا تعبيرًا اشتقاقيًّا دالًّا على العضو الذكريّ في إحدى المرّات، ومعتبرًا أنّ هؤلاء السياسيّين جامَعوا "أُمّ" لبنان، واغتصبوها، وتناوبوا على مضاجعتها "بالقوّة" و"بالإكراه".

... وهؤلاء، في الأغنية، باعوا لبنان.

لماذا أكتب عن هذه الأغنية؟

لأنّ الشيء بالشيء يُذكَر.

ولأنّ فيلمون، لو كان لا يزال بيننا، لكان السبّاق حتمًا، في تأليف الأغنية التي "تليق" برموز الطبقة السياسيّة حاليًّا.

ولأنّ الأغنية هذه، "سركيس سركيسيان"، هي أوّلًا انتقامٌ للبنان الذي أحبّه فيلمون وهبة، والذي يحبّه لبنانيّو كلّ زمان، من طينة فيلمون وهبة، الآدميّ، الطيّب.

وهي، ثانيًا، انتقامٌ للبنانيّين، الذين تحمّلوا ماضيًا، وتحمّلوا في الأمسين القريب والبعيد، ويتحمّلون اليوم، والآن، من السياسيّين، ما لا قدرة للجبال العاتيات أنْ تتحمّله.

وهي أوّلًا وثانيًا وثالثًا، وإلى آخره، انتقامٌ من الطبقة السياسيّة التي سلّعت لبنان، ونهبته، وشوّهت فكرته ومعناه وسمعته، وفظّعت فيه، وخرّبته، وباعته، وجعلت "أمّه" بضاعةً جنسيّةً مبتذلة على أسرّة أقزام الزمان.

إنّها الإدانة العارية الفظّة، الجامعة المانعة، للطبقة السياسيّة برموزها كافّةً.

ما أشبه اليوم، بالأمس.

وكم تنطبق "سركيس سركيسيان" الأغنية، على ساسة هذا الزمان، وأحوال هذا الزمان، ولبنان هذا الزمان!

الله يرحم ترابك يا فيلمون!

[email protected]

للاستماع إلى الأغنية، اضغط على الرابط المرفق أدناه:

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم