على أمّ الشرائع السلام

كارل أبو مراد

بيروت، طرابلس، صيدا، النبطية... الذي يجمع اليوم أكثر من الذي يفرّق، لذا الكتابة واجب. منذ 17 تشرين الأول وريح التغيير تعصف بلبنان. هي ريحٌ أخذت معها الكثير من المحرّمات وفرضت لغة جديدة للكلام السياسي والاقتصادي. الفساد ينخر الدولة منذ سنوات، الفقر إلى تزايد، شبح البطالة يلازم الشباب، الكهرباء شبه غائبة، الليرة تلامس القعر، الأسعار تسابق السحاب... واقعٌ لا يمكن إنكاره وكأس مرّة يشربها اللبناني يوميّاً حتّى أصبحت الثورة واجباً والتغيير لا مفرّ منه. لست أدري كيف يمكن للمواطنين الذين في السلطة أن يصمّوا آذانهم عن وجع مواطنين يجهلون مصير غدهم في الأرض الأحبّ إلى قلبهم، الوطن. أبسّط الكلام: مواطن مسؤول في السلطة لا يستمع إلى شكاوى مواطن آخر! هذا حجم الجبّ الذي نعيشه وهذه حالنا في لبنان. لكن حالنا هذه ألا تطرح سؤالاً بديهيّاً: كيف سمح هذا المواطن المسؤول لنفسه أن يحيد بأذنيه عن حقوق ومطالب من أوصله وائتمنه على الدولة؟ فكرّت كثيراً قبل ان أجيب علّ الجواب يخفف عنّي، لكني لم أجد سوى جواب واحد لا يقلّ مرارةً عن الواقع الذي نعيشه: نحن من يصنع الطغاة. نعم، الشعب اللبناني هو من صنعَ الطغاة الذين انقلبوا عليه وصمّوا آذانهم عن مطالبه وتاجروا بحقوقه. خلفيّتي الحقوقيّة المتواضعة تزيد الطين بلّة، كما يقال، لأننا على مقاعد الدراسة نتعلّم بناء الأوطان لنرى في الخارج كيف تُهدَم! الجميع يسأل عن الحلّ ويتهافت المثقفون لصناعة حلول يأتون بها من المرّيخ، ولا أحد يعير أي اعتبار للحلّ الأسهل والأكثر تمدّناً وواقعيّة: الانتخابات. حسب مصادر وزارة الداخلية، النسبة العامّة للمقترعين في لبنان عام 2018 لم تتجاوز 49.68% وهذا يعني أن نصف الشعب اللبناني لم يمارس حقّه بالانتخاب (لسبب أو لآخر) وأن ممثلي الأمة يمثّلون نصفها الآخر فقط، إذا سلّمنا جدلاً أنّ الناخبين اختاروا النواب بقناعة لا تبعيّة، وبضميرٍ صافٍ دون تدخلات "خارجيّة". هذا الحلّ الأول يفتح الباب أمام حلّ ثانٍ ليس مريّخيّاً وهو تشريع استقلالية القضاء. مشكورة لجنة الإدارة والعدل على عملها الدؤوب للوصول إلى هذا القانون، لكن كيف لكتل الأحزاب أن تشرّع محاسبتها؟ لا بد من توجيه شكر لنقيب المحامين الدكتور ملحم خلف الذي بانخراطه التامّ والمستقلّ في العمل السياسي وضع نهجاً جديداً للعمل النقابي، وبتسليمه السلطة مسوّدةً لخطة مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة تحت راية القوانين الوطنية، رمى كرة النّار في ملعب رئيس الحكومة الذي تلقفها. لا بناء للأوطان خارج الفكر المؤسّساتي ومنطق المحاسبة والرضوخ للقانون، فكما يقول سقراط: «إن الدولة تشبه أبناءها، فلا نطمع بترقية الدولة إلا بترقية أبنائها». لم يحاسب اللبنانيون مسؤولاً منذ 30 سنة، بل على العكس كانوا يجددون عهدهم له في الانتخابات معلّقين حجر الرحى في أعناقهم، وكلّ ورقة سقطت في الصندوق وصبّت لمصلحة فوزه كانت تُحكِم قِفْل حجر الرحى. اليوم، مَن بايعتموهم لسنواتٍ طوال، رموا بكم في البحر والأحجار معلّقة في أعناقكم، فهل يجيبون لاستغاثتكم؟ لا يمكننا المطالبة بإسقاط حكومة لم يمرّ على استلامها الحكم ستة أشهر لأنها افتتحت عملها بالوباء العالمي، وعمل الدولة بأكملها توقّف بسبب التعبئة العامّة، وأصبح كورونا الشغل الشاغل في مقرّرات مجلس الوزراء. لا مجال لبناء الدولة خارج الانتخابات السليمة والبعيدة عن التبعيّة لإيصال ممثلين عن الأمّة شرفاء يمكن الاتكال عليهم، فأيام أغورا اليونان ولّت، ولا يمكن إدخال أربعة ملايين لبناني تحت قبّة البرلمان. على هذا البرلمان الديمقراطي المرجوّ أن يأتي بحكومة تشبهه لخدمة الشعب، وبتكافل جهود السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة نمهّد للعمل الجاد لتطوير الوطن. كلّ الثورات تبقى مبتورة الأعضاء ما لم يرافقها عمل مؤسّساتي ديمقراطي يضمن تحويل المرتجى إلى واقع. امتحان الشعب اللبناني ليس اليوم بل في أيار 2022، يوم يعطيه القانون ودون منيّة من أحد فرصة تغيير الواقع بالطرق السلميّة والشرعيّة المكفولة في الدستور. قديماً علّمت بيروت القانون للعالِم الروماني فدُعيت أمّ الشرائع، إن لم نتحوّل اليوم من منطق الفعل وردّة الفعل إلى منطق القانون، على أمّ الشرائع السلام.