لبنان السياسي إلى أين؟

عاصم عبد الرحمن

يبدو أن القيّمين على اتفاقية سايكس - بيكو التي قسّمت المنطقة العربية منذ مئة عام خلت، قرروا الاحتفال بمئويتها عبر إطلاق سايكس - بيكو جديد باتت ملامحه واضحةً وضوح الشمس في أرجاء العالم العربي، بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي أو قبل ذلك، في لبنان (الحرب الأهلية) والعراق (الحرب العراقية - الإيرانية) واليمن ومصر وغيرها من الحروب المتنقلة...

وعلى الرغم من انكفاء التداول بمصطلحات الشرق الأوسط الجديد التي تركت آثارها السلبية في نفوس العرب وتالياً في نصوصهم فعبّروا فيها عن رفض المسارات التدميرية للدول والمجتمعات العربية، هي نفسها قُطعت إرباً بحيث رُسمت حدودها منتصف المجموعات والكيانات الموحدة كي تفقد عنصر قوة الجماعة، فإنَّ العمل على خلق الشرق الأوسط الجديد لطالما سار على قدم وساق دون توقف، وكان آخرها صفقة القرن المزعومة.

وعلى وقع الحروب المفتعلة التي تنحصر مهمتها بالقتل والتهجير والتطهير العرقي والتغيير الديمغرافي كي يلائم تركيبة الدويلات المنتظرة، تدور سيناريوهات التقسيم وفق الآتي:

عراقياً، فإنَّ دويلاته باتت بحكم الترسيم النهائي: سنيّة، شيعيّة، وكرديّة.

سورياً، فإنَّ دويلاتها باتت بحكم التفاوض المتقدم بين كبار الرعاة الدوليين بحيث تُقسم إلى ثلاث مناطق: شرقية كردية برعاية أميركية؛ غربية علوية - مسيحية برعاية إيرانية – روسية؛ وأخرى سنية برعاية تركية.

ليبيّاً، فما حرب الحكومة المعترف بها دولياً وقوات اللواء خليفة حفتر الإنقلابية إلا سيناريو تقسيم ليبيا إلى دولتين أو ربما أكثر.

يمنياً، والذي فقد سعادته، فإن مسار تقسيمه يتفوق على صون وحدته الكيانية مع تعدد لاعبي بطولة التقسيم عربياً ودولياً.

سودانياً، فقد سار بخطىً ثابتة نحو التقسيم بعد سلخ الجنوب ومحاولات إقليم دارفور الانفصال عنه.

مصرياً، فإنَّ معارك سيناء اللامتناهية ما هي إلا محاولات صهيونية لجعلها كياناً بديلاً فلسطينياً مع دويلات إسلامية وقبطية، وقد تجلى ذلك في مخططات صفقة القرن.

وهنا تتواتر الأسئلة: ماذا عن السعودية؟ هل ستبقى بمنأىً عن إعادة الفرملة المذهبية والعين الإيرانية شاخصة أمامها؟ هل حقاً ستكون مكة المكرمة عاصمة دينية للشرق الأوسط الجديد كدولة الفاتيكان؟ وأي مستقبلٍ ينتظر الجامعة العربية التي ستُخلط تركيبتها بفعل ولادات الدويلات الجديدة؟ هل ستُضم إليها إسرائيل باعتبارها دولة شرق أوسطية ولا بأس بعنصريتها في قلب عالم عربي مقسم طائفياً وهنا بيت القصيد؟ وهذا كله وفق مسارات الشرق الأوسط الجديد الذي تولت وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس نشر رسائله التبشيرية، وخاضت لأجله حروباً دبلوماسية وعسكرية.

إذا كان تقسيم معظم الدول العربية إلى كانتونات طائفية سيؤدي ذلك حتماً إلى نوعٍ من الوحدة مع كانتونات أخرى خارج الحدود التقليدية ما سيحولها قوة مواجهة بفعل التلاحم الديني والمذهبي، فلعل ذلك قد يدفع برعاة التقسيم إلى إعادة حساباتهم إذ إنهم أرادوا من هذه الفدرلة خلق كيانات هشة عاجزة عن الصمود، لا مجموعات دينية تمضي نحو المزيد من الاتحاد.

كردياً، قد يكون الرابح الأكبر بعد إسرائيل في رسم الشرق الأوسط الجديد هم الكرد الذين حُرموا من بناء الدولة الكردية العظمى من جراء تراجع الإنكليز منذ مئة عام وتضارب المصالح الغربية آنذاك؛ ولكن تبقى عبرة الإرادة الخارجية في تنفيذ الإرادة الداخلية وكسب الرهان الكردي في التنازل عن الشخصانية لصالح الهدف الكبير وهو الدولة الكردية.

أما لبنانياً، وإذا كانت حوامل الهند تضع مواليدها في لبنان؛ فأين هو من ثورة التقسيم والفوضى الخلاقة المزعومة؟ كيف ستتشكل كانتوناته الطائفية والمذهبية وهو المتميز بتضاريسه الديمغرافية وتداخله الطائفي والمذهبي بفعل المصاهرة والقرابة والشراكة وغير ذلك؟

كيف سيتخلى المسلم عن مياه الجبال؟ وكيف سيعيش المسيحي دون سهلَيْ عكار والبقاع؟ كيف سينسى الدرزي دفء الجنوب؟ كيف سيعيش لبنان المتقوقع بلا لبنان المتنوع؟

لعله من السهل جداً إيجاد الأرضية الخصبة لفدرلة لبنان إذ إنَّ البلد المنهار إقتصادياً ومالياً وبالتالي اجتماعياً ويكاد يسقط في أيدي شريحة سياسية وطائفية واحدة هي حزب الله الشيعي الذي بات يمسك بمعظم مفاصل الدولة؛ ففي لحظة الانهيار النهائي يصبح التقسيم وفق أسس بنيوية طائفية وليست سياسية حزبية أو تحالفية كإطار تحالفَيْ ٨ و١٤ آذار التعدديين سياسياً وطائفياً؛ ذلك أنَّ لبنان لم يبلغ يوماً مرحلة البنيات الوطنية المؤسساتية ودولة القانون والمواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات.

ويبقى الرهان وفق مختلف الشرائح اللبنانية على الرعاة الدوليين الذين يرتبطون بهم سياسياً وروحياً، ولكن أي لبنان يريده اللبنانيون وهو الأسوأ حظاً في جاره الإسرائيلي؟ إلامَ ستفضي المفاوضات الأميركية - الإيرانية التي ستجري مستقبلاً حول قضايا مشتركة ومنها لبنان والعراق؟ وأي تركيبة سياسية سيرتضون بها نظاماً سياسياً يحكمهم؟ أم سيغردون متحدين خارج سرب المطبخ السياسي الدولي؟