الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

رسومات رفيق الحريري تحاكي النفس وحداثة الفن الرقمي... سيميائية الغوص في الباطن

المصدر: "النهار"
شربل بكاسيني
شربل بكاسيني
رسومات رفيق الحريري تحاكي النفس وحداثة الفن الرقمي... سيميائية الغوص في الباطن
رسومات رفيق الحريري تحاكي النفس وحداثة الفن الرقمي... سيميائية الغوص في الباطن
A+ A-

ندوّن لنترك أثراً، لئلا نضيع كالرماد. نرسم لئلا نستحيل سراباً، لنلثم جراحنا ولنلمس ذواتنا الملتهبة. نفكر لاكتناه معاني حياتنا، ونرسم لنجسّد ندوباً صغيرة تعتري أرواحنا، فنحيا بها. أمام المرآة وقف، خلع العوالق الزائفة عن روحه، فانتصبت عارية. راح يسائل ذاكرته وباطن نفسه، فكانت النتيجة عشرات الرسومات التي عمل عليها رفيق الحريري طوال سنوات قليلة خلت، تجلّت فيها هواجسه وطيّات نفسه، ففي الرسم ارتقاء بالروح وإعلاء لمصافها.

يعود سبب اختيار رفيق الحريري، ابن طرابلس، الفن الرقمي (Digital Art) لخبرته في فن الاتصالات البصرية. ربما لا يحتاج الأمر إلى مزج الأصباغ والانتباه لتفاوت محتمل لدرجاته، مما يشوّه اللوحة، لكنه يتطلب مهارة عالية ودفة لإتقان تدرج الألوان، وهو ما يتقنه الحريري. اللعب بالرموز هوايته. "لديها قدرة عالية لتمرير الرسائل"، يشرح لـ "النهار". يتقن الاختيار فيضفي غموضاً على رسوماته. دقيقتان، ثلاث دقائق، وربما أكثر. يقف المرء أمام واحدة منها، يتساءل، ويرجّح...

اعتماده الرموز لوصف ما يجول في خاطره وما نصادفه يوميًا "من دون أن نعيره أدنى أهمية لأننا اعتدنا وجوده"، هو ما يميّزه عن عدد من رسامي العصر الرقمي. يفهم الحريري عملية الإدراك الحسي. اللعبة لعبته. يصوّر ما نصادفه يومياً ولا يعنينا، بيد أنّ غيابه يحبطنا.

من ينظر إلى رسمة "الظلمة والنور" يعتقد لبرهة أنها تعبّر عن كيف أن المجتمع يحصر الفرد منذ ولادته في كتاب قواعد، كاسراً بذلك أجنحته. يأتي صوت الحريري ليعطي التأويل الأصلي. يبتسم، ثم يشرح أنها تعني بأن "الإنسان كالطفل، يحزن لتحطيم جناحيه في مواجهته التحديّات"، ثم يشير إلى الإبرة والخيط في أسفل الصورة، "لكن باستطاعته مداواة جراحه وإعادة تثبيت جناحيه بعد الألم". عبر "انستغرام"، شارك الحريري الرسمة مذيّلاً إياها بمقولة الكاتب جون مارك غرين "أنت لست الظلمة التي عانيت. أنت النور الذي رفض الاستسلام".

للحرية هامش واسع من تفكير الحريري ونمط حياته. هي التي تجعل القمر أقرب والحلم حقيقة وتحقيق الذات أمراً واقعًا. والحرية لحظة نخلقها، وأخرى نتمسّك بها. وهو ما يعبّر عنه في رسوماته وتحديداً في رسمة "غنِّ كالعصافير" التي يدعو من خلالها المرء للانعتاق من قيوده ولاعتناق الحرية. ومن وحي جلال الدين الرومي، يشرح قائلاً: "هي دعوة للغناء كما تغني العصافير، غير المكترثة بالسامع ولا بما سيفكر فيه لدى سماعه". أفكار كثيرة احتاجت سنوات وقروناً وكتباً لبلورتها ولشرحها، يختصرها الحريري في رسمة، مؤكداً أن الرسم يختصر المعنى ويسهّل وصوله.

يشدد الحريري على أهمية الحديث عن الصحّة النفسية، بخاصة أن "الأمر لا يزال محرماً في بلادنا". وفي رسوماته، تتجلّى الدلالات التي يستخدمها للإضاءة على بعض النقاط النفسية والجوانب المظلمة من حياة الأفراد التي يمكن أن يراها منيرة إذا أراد هو ذلك، وإذا عمل عليها. في رسمة "كالفراشات"، يجسد الشعور بالفرح العارم والحب والنشوة، انطلاقاً من التعبير الاصطلاحي الانكليزي "لديّ فراشات في معدتي"، والذي "يستخدم للدلالة على الشعور بالحب والسعادة، وفي الوقت عينه يمكن أن تكون هذه الفراشات نذير شؤم وحزن". وفي رسمة "الشفقة" أو "التعاطف"، يستخدم الحريري العصفور الذي "يسكن وحيداً في عشه، مانعاً أي عصفور آخر من مشاركته بيته"، مشيراً إلى "الإنسان الذي يقف بين قبول ورفض فكرة أن يشاركه أحد حياته أو أن يدخلها". لكن العصفور الوافد يحمل في منقاره ضمادة لـ "مداواة جراح الآخر، دلالة على الشفاء الذي يريد أن يمدّنا به من يريد التقرب منا".

تولد أفكار الحريري من مراقبة الحياة اليومية ومن مجموعة صور ورؤى تتزاحم في رأسه خلال النوم. "حين أفيق أرسم بسرعة ما رأيت لئلا أنساه، وهنا تبدأ عملية البلورة والتنقيح". الأمر واضح. فمن ينظر إلى رسوماته يخال نفسه في حلم غريب المعاني، كثيرها، وهو ما تعززه كثرة الرموز، كالعشب والجمجمة والمقص والحبل السري. كلها رموز "تخدم الفكرة المطروحة". وفي معظم رسومات الحريري، يكون هو البطل الرئيسي، "لأنها شخصية وتعبر عني وعما أعيشه وأراه وأشعر به، وعن كل عنصر يعني لي الكثير من عناصر الحياة والطبيعة". ففي رسمة "طفل القمر"، نرى طفلاً خارجاً لتوه من أحشاء أمه، ما زال مربوطاً بها من خلال الحبل السري، حاملاً بيده هلالاً فضيا مضيئا، وهي من أكثر رسومات الحريري حميميةً. "كل شخص يتعلق بشيء ما ويشعر برابط غامض تجاهه ويرافقه طوال حياته، أنا لديّ القمر".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم