الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

نقاش المرحلة المقبلة: الأزمات الكبرى لم تؤدِّ إلى نهاية التاريخ ولم تمنع التقدّم الإنساني

المصدر: "النهار"
كه يلان محمد
نقاش المرحلة المقبلة: الأزمات الكبرى لم تؤدِّ إلى نهاية التاريخ ولم تمنع التقدّم الإنساني
نقاش المرحلة المقبلة: الأزمات الكبرى لم تؤدِّ إلى نهاية التاريخ ولم تمنع التقدّم الإنساني
A+ A-

في ظل هذا المناخ المثخن بالتوتر والقلق، يحتاجُ الإنسان إلى إسباغ المعنى لما يعيشه، لذا لا عجب من إثارة اللغط وسيولة التأويل بشأن الحدث الأبرز. يتطلبُ هذا المنقلبُ التاريخي الإصغاء إلى أصوات هادئة، كما يفرضُ استشراف مرحلة ما بعد الأزمة حول ما تمرُ به المجتمعات البشرية من لحظات فارقة ودور الفلسفة في إعادة الطمأنينة إلى النفوس. كان لـ"النهار" حوار بهذا الصدد مع الباحثة التونسية إيمان الرياحي، وهي متخصّصة في فلسفة العلوم الذهنية.

* مع إنتشار فيروس كورونا "كوفيد19" وتفاقم مخاطره، رشحتْ عدة سناريوات حول هذا الوباء المتعولم، ذهب البعض بأنَّ ما يجري هو حرب بيولوجية بين القوى المتنافسة على قيادة العالم. ثمة من يرى بأنَّ الوباء ليس إلا فخاً مالتوسياً، كيف نفهم المشهد؟

إذا افترضنا بأنّ الوباء العالمي المستجد يوقعنا اليوم في "فخ مالتوس"، فإنّ ذلك يدعونا حتما للتفكير وفقا لتصورات علم الاقتصاد السياسي التي لا تتحدث عن الطبيعة باعتبارها فضاء رومانسياً، وهي لا تتنزهها ولا تسقط عنها أيضا نعوتا أنطروبورفية أي إحيائية وإنسانية ونوستالجية من قبيل أنّ الطبيعة "طيبة" وأنها "تحس" و"تفكر" و"ترد الاعتبار إلى ذاتها" و"تعاقب الإنسان الشرير" عبر الكوارث والأوبئة... إنّما يتجاوز التصور المالتوسي التفسيرات القروسطية الاحيائية حول الطبيعة، ليكشف عن وجود حتمية علمية هي التالية: تحصل في الطبيعية جائحة، وعملية انتقاء الطبيعي للبشر، كلّما فاق النمو الديموغرافي للسكان نسبة الخيرات المتاحة. تستهدف هذه الكارثة الفئة المثقلة لكاهل الجماعة البشرية التي تنتمي إليها. ينظّم الانتقاء الآلي الأشياء من جديد ويحقق التوازن الديموغرافي ويعيد المنظومة البيئية إلى نصابها ويساعد المجتمعات على تخطّي الفقر والبؤس. لذلك يقول التيار اللبيرالي المعاصر المعروف بـ"المالتوسية الجديدة" بضرورة مراقبة كل المعطيات الديموغرافية والتحكّم فيها عبر تطبيق قانون الانتقاء وتوظيفه لإنماء الخيرات والثروات والمحافظة عليها. وفقا لهذا المنطق، يمكن أن يكون هذا الوباء انتقاء طبيعيا أو تطبيقا إنسانيا قاسيا لقانون الطبيعة، وإن كانت الدلائل الملموسة حول إمكان توظيف فيروس كورونا لخدمة أغراض ديموغرافية واقتصادية بعيدة المدى تعوزنا الآن، فإنّنا نعرف على الأقل الفئة التي يستهدفها الفيروس، وهي واضحة ومعلومة، وهي حسب دراسات علمية عديدة، فئة المسنين الذين ما انفكّ بعض رجال الاقتصاد المعاصرين يتبرمون منها كفئة غير نشيطة. فإن كان الموت لا يستثني أحدا والكورونا تصيب الجميع وتقتل أساساً ذوي المناعة لضعيفة، فإنها "تفضّل من هم فوق الخمسين سنة" والعبارة هنا للمركز الصيني لمراقبة الأمراض و التوقع بها... وترتفع خطورة الكوفيد 19 وفق احصائيات المجلّة الطبية الأميركية "جاما" حسب التقدّم في العمر، فجلّ الموتى في أوروبا مثلا هم من إيطاليا التي تعرف بتهرمها السكاني، وقد ارتفع عدد ضحايا الوباء فيها لمن هم فوق الستين سنة. وتبيّن المجلة الطبية أنّه كلّما تقدّم الإنسان في السن تزايدت احتمالات معاناته من الأمراض المزمنة، لذلك تعدّ نسب الموت من مجموع اصابات كورونا متصاعدة حسب الفئات العمرية، وهي منخفضة جدا عند من هم دون الأربعين (0,2 %) وترتفع تدريجيا لتصل إلى (14,8%) لمن هم فوق الثمانين... عموما يرجّح الكثير من العلماء أن تكون الكورونا سلاحا بيولوجيا. في هذا السياق يقول الدكتور لوك مونتانييه، الحاصل على جائزة نوبل ساخرا: لا يمكن أن نكون سذجا إلى هذه الدرجة التي تجعلنا نصدق (الأسطورة الطريفة) تلك التي ترجع نشأة الفيروس إلى سوق الحيوانات بووهان وننسى أنّ في تلك المدينة أكبر مخابر دراسة للفيروسات منذ مطلع الألفية الثانية.

*في البداية، صرّح السياسيون بإن إيجاد اللقاح سيتمُ في غضون مدة قصيرة، لكن قد مرت أشهر لا يزال العالم يترقب صعود دخان الأبيض من المختبرات، هل أصبح كورونا موضوعاً مسيساً؟

بغض النظر عن النقاشات العلمية الدائرة في المجال الطبي حول البروتوكولات العلاجية المناسبة للتحكم في عوارض الكورنا، يتخذ الحديث حول لقاح الكوفيد 19 وأساليب التوقي منه منحى سياسيا. مثال ينتقد عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي ادغار موران فكرة "مناعة القطيع" ويستهجن تحديدا عبارات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون التي تدعو المواطنين إلى أن يستعدوا لخسارة الأقارب والأحبة، واعتبر المفكّر ذلك علامة واضحة على لا مبالاة الرأسمالية وقابليتها للتضحية بالفئات الهشة من مرضى ومسنين لمصلحة مستقبل الاقتصاد. أمّا المبرّر الضمني لرئيس الوزراء في تقدير موران، فداروينيُ قائم على فكرة الانتقاء الطبيعي للبشر. من جهة أخرى، أثار تصريح العالم الفرنسي ديدي راوول حول استعمال دواء الكلوروكين في علاج الكوفيد ضجة علمية وإعلامية وسياسية تصاعدت حدتها على إثر زيارة الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون لمرسيليا و التقائه بديديي راوول. أمّا تراشق التهم بين أميركا والصين حول اعتبار كورونا "حرباً بيولوجية"، فكانت نتيجته أن تدعو منظمة الصحة العالمية إلى حسن اختيار العبارات والتذكير بأن استعمال الأسلحة الفيروسية محظور دوليا. وفي المقابل، تلتزم ألمانيا بأدبيات السلام، حيث يخاطب رئيسها فرانك فالتر شتاينماير شعبه قائلاً: "لا نعتبر تفشي كورونا حرباً. ليست الجيوش والدول في مواجهة لبعضها البعض، بل على العكس من ذلك، ما يحدث اليوم اختبار لإنسانيتنا". أمّا قرار الرئيس دونالد ترامب بوقف تمويل منظمة الصحة العالمية، واتهامها بالتقصير والتواطؤ، فيزيد الأمر تعقيدا. نستنتج إذن تحوّل كورونا إلى موضع جدل سياسي وهو بعيد في مجمله على تأويلات "النوايا الحسنة" للوباء وقصص "سوق الحيوانات البرية بووهان" و"مغارات الخفافيش" و"عجائب أفلام الخيال العلمي".

حاول عدد من الفلاسفة بلورة آراء وتصورات بشأن ما يشهده العالم من الخوف والتوتر جراء وقوع البشر فريسة في قبضة فيروس. برأيك هل تكون هذه الأزمة دافعاً للعودة إلى رواق الفلسفة؟

وضعتنا أزمة كورونا اليوم في وضعية حرج قصوى، حيث يجد الإنسان نفسه في مواجهة خطر داهم ومحدق به. ومن العبث أن يكون مصدر هذا الخطر فيروسا متناهي الصغر،  ومن السخرية أن تكون وسيلة الوقاية الأولى هي التعقيم المكثّف الأشبه ما يكون بوسواس قهري للنظافة. يتحول الحجر الصحي الضروري لتجنّب الإصابة بالعدوى إلى سجن إرادي يتخلى بموجبه الإنسان عن أغلى قيمه أي الحرية المطلقة في التنقل، ويحرم الإنسان الالتقاء بالآخرين في الفضاءات العامّة وعلى النحو الاجتماعي المعتاد... زد إلى ذلك، أنّه يترقّب الاعلان عن وجود لقاح فعال ويتتبع أخبار المرضى ويحصي الناجين من مخالب هذا الوباء إلى أجل غير معلوم... ما أحوجنا اليوم إلى سكينة الحكمة التي لا نصاحبها بحق إلا بالتمشي في رواق الفلسفة بكل ما تحمله العبارة من إحالة على "الرواقية"، أي تلك المدرسة الفكرية التي تعتبر الفلسفة فنا رائقا في العيش وطريقة مثلى في الاستمتاع بالحياة. يقتضي تحقيق السكينة في هذا السياق الفكري، مواجهة مشاعر الخوف والقلق والحزن. حيث تحصل طمأنينة النفس بتحكمها في انفعالاتها ومصالحتها للواقع بكل ما فيه من تناقضات ومن أحداث طارئة. سيكون من الحكمة إذاً، ووفقا لهذا المنطق تحويل الحجر من منفى ذاتي إلى فضاء تأمّل. بهذا المعنى يحدّ قلق الوحدة من الأنانية ويحفّز الوعي الجمعي. يجعل الحجر النّاس مشتاقين إلى التنقّل ومقدرين لجمالية الانعتاق. أوليست الحرية قيمة القيم؟

من المتوقع مزاحمة الذكاء الاصطناعي لطاقات الإنسان وقدراته، كيف يمكن الإفادة من خبرات متراكمة على صعيد الذكاء الصناعي في محاربة الوباء؟

لقد أثبت الذكاء الاصطناعي مدى نجاعته وجدواه، سواء في ما يتعلّق بمراقبة انتشار الفيروس أو في تشخيصه والمساهمة في ايجاد لقاح له. لنتذكّر جيّدا أنّ الكمبيوتر الذكي كان أوّل المتنبئين بانتشار الوباء وأنّه كشف عن ذلك قبل تحذير منظمة الصحة العالمية، ولم يخيّب برنامج Blue Dot مطلقا الظن. لقد صمّم هذا البرنامج خصيصا بكندا لإحصاء المعلومات حول الأمراض المعدية ولاستباق أخبارها دون التعويل على الحكومات التي لا تعطي المعلومات الصحية أحيانا في الوقت المناسب. وفعلا نجح "بلو دوت" عن جدارة في التنبؤ بظهور الكوفيد 19 قبل اعلان البيان الرسمي لمنظمة الصحة العالمية حول الفيروس بتسعة أيام. حيث أشارت المنصة الرقمية للكمبيوتر في نهاية سنة 2019 للحدث العالمي المستجد بوضع علامات أمام عبارات "حالات التهاب رئوي غير عادي في ووهان". وبيّن الكمبيوتر في الحين، ومن طريق تطبيق برنامج خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية، أنّ عدوى المرض ستنتقل أولا إلى سيول وتايبيه وطوكيو. إضافة إلى ذلك تتجلى مهارات الآلات الاصطناعية في مراقبة عوارض كورونا والحرارة المرتفعة لدى الناس عبر توظيف الأشعة تحت الحمراء وتساعد الآلات في تعقيم الفضاءات الطبية و العامّة وتقوم الروبوات الذكية برعاية المرضى حيث تزورهم في غرفهم وتقدّم لهم كل ما يحتاجونه من غذاء ودواء... يؤكّد كل ذلك قيمة الذكاء الاصطناعي وقدراته العالية على التوقع والتحكّم و التصدي للأمراض ومواجهة الموت ممّا يشجع تيارات الإنسانية المتحوّلة على تطوير الأتمة أكثر وأكثر وعلى إدماجها في مختلف مفاصل الحياة البشرية.

سينتهي هذا الوباء عاجلاً أم آجلاً، وربما تصبحُ هذه التجربة بدايةً جديدة في مسيرة التطور العلمي والحضاري، ويكتسب البشر مزيداً من المناعة، ولكن هل تشهدُ المجتعات البشرية فعلاً تحولات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أم أن الإنسان يصنع تاريخه، لكن ليس على دراية بما يصنع على حد قول ماركس؟

سيكون لأزمة كورونا تداعيات اقتصادية من دون أدنى شك وبقدر ما يتخوف بعض خبراء من تبعاتها، يبرز البعض الآخر دورها في تعزيز الاقتصاد الرقمي. حيث يبرز تفاعل واضح وتنسيق مهم بين تكنولوجيا المعلومات و تكنولوجيا الاتصالات وتطوّيع البرمجيات لتسيير مختلف الأنشطة من بعد سواء أكانت إدارية أو ثقافية أو بيداغوجية... ونلاحظ مدى انكباب المؤسسات والأفراد على العمل الالكتروني وعلى التسويق الرقمي، ممّا سيشجع كل الدول على استعمال العملات المشفّرة أكثر، وفي كل أصقاع العالم. تغدو "البنية التحتية" ممثّلة في تكنولوجيات الجانب المادي أي المعدات والجانب الرقمي أي البرمجيات... سيغيّر نشاطنا المادي الحالي تصورتنا ورؤيتنا إلى الأشياء. كذلك نشاهد بوضوح تأرجح بطيء للساسة وانحسار دورهم نزولا وصعودا ولا يهمّنا انتصار بعض الايديولوجيات السياسية هنا أو تراجعها بقدر ما تهمّنا المحافظة على مكاسب حقوق الإنسان والمواطن وعدم التفريط فيها كحريات كونية وكقيم عليا. ولنتذكر جيداً أنّ الأزمات الكبرى من أوبئة وحروب وكوارث، لم تؤد إلى خراب العالم ونهاية التاريخ، ولم تمنع التقدّم الإنساني، بل كانت دائما ما يدفع الإنسان إلى التكيّف مع محيطه الخارجي واستعادة مكانته الثابتة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم