الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

مارلين سعاده في ديوانها "أبعد من حدود الوجود": اللامتعثّر الابداعي في شاعريةِ الإحساس وشعرية الخيال

المصدر: "النهار"
الحسام محيي الدين
مارلين سعاده في ديوانها "أبعد من حدود الوجود": اللامتعثّر الابداعي في شاعريةِ الإحساس وشعرية الخيال
مارلين سعاده في ديوانها "أبعد من حدود الوجود": اللامتعثّر الابداعي في شاعريةِ الإحساس وشعرية الخيال
A+ A-

أنْ تكونَ النَّبوءةُ قبلَ انهمارِ الوَحْي، هوَ أنَّ القصائدَ الأبعدَ من حدودِ الوجود هيَ القصائدُ النِّسوة، العذارى السائحاتُ في فراديسِ اللُّغةِ الأُنثوية كينونةً ونضوجا، اللواتي يُطَوِّقْنَ الشِّفاهَ بالقُبَلِ الحيارى قبلَ فرارِ السُّؤالِ منها. هنا كلُّ شيءٍ في مكانهِ الصّحيح، وهُنا تحلّقُ بنا الشاعرة اللبنانيّة مارلين سعاده في انبعاثٍ إبداعيٍّ رَحِب، عريقٍ كالذَّهَب، لا مُتَعثِّر، يرغبُ في انتاجِ المعرفةِ بالنّص وليسَ قراءتهِ فحَسب، ويثبِّتُ البوصلةَ في فنّيتهِ إلى الجانبِ الآخرِ مِنَ مبدئهِ الوجودي مع ذخائرِ الصُّورِ والمعاني التي تُحْضِرُها سعاده خواطرَ تلقائية في طريقها الى ذلك الابداع، والتي هي من التَّخْييلِ بمكانٍ يقلِبُ الاستثارةَ العاطفية مِنَ الخاصِ إلى العام أو هو وجهٌ آخر مِنَ انزياحٍ (l'ecart) دلاليّ هو استبداليّ كما يقول جان كوهين، إذْ أننا قدْ نأخذُ المُفردةَ على ظاهرها وقائمةً بذاتها بمعناها الاصيل، فيما هيَ تختلفُ في معناها المُتَحوِّلِ المَرجو منها، وهوَ ما يخدمُ مفهومَ المجازِ في لُغتِها. تقول سعاده: 

أدعوكَ لنرفعَ كأسَ الماضي

ونحيي كلَّ ما مرَّ فيه

لنُزاوِجَ سِحْرَ فقاعاتهِ بسِحْرِ حنيننا العجيبِ ونُوَلّدَ فرحاً أبديا

فرحَ أنْ تجمعنا هذهِ الامسيةُ خلفَ ستائرِ أحلامنا

أبعد مِنْ حدودِ الوجود!

إنها تأخذُ بنا الى الأشكالِ المتغيرةِ للمفردات من المعنى المباشر الحادّ إلى ما يمكنُ تسميتهُ الاصطلاحَ الخَصْبَ للمعنى البديل، فالسِّحرُ أعلاه هُوَ امتزاجُ مساواةٍ بينَ المادة والمادة، بين جسدينِ يتسابقان في براءةِ اللُّقْيا، أوْ فلنَقُل مصادفة أنثى برجُلٍ على احتمالِ التَّوْقِ اللامحدودِ بينَ ما كان الى ما سيكون، وليسَ انتهاءً بالرحيلِ السَّديمي الأخير بانطواءِ السِّر معَ أُحجيةِ المصير. فالوقتُ ليسَ مَضْيعةً في انغمارنا المُباشِر في ثنايا الديوان، الذي تدأبُ فيه سعاده لتحقيقِ فكرةٍ انسانيةٍ مُتّصلة بوضوحِ الملكةِ الفنيّة مِنْ جهة والثّيمات البِكْر المنشودةِ في أنماطِ الذَّوْق العام للقارىء مِنْ جهةٍ لاحقة، والذي يعني اتساقاً سيكولوجياً بينَ الفكرة والأخرى في القصيد الواحد لاظهار طبيعة الانسان وسجاياه وهُوَ ما يُشابِهُ المَسرَحَة في النّص شعراً كان ام نثراً. وهذا التوليفُ بين الحسّ الفني، والوضوح في الهدف إنما يصدرُ عنْ قوةٍ في التخييل، وارتباطٍ ظاهرٍ بينَ ملَكَتَيْن في الكاتبة: الشّاعريةُ والشِّعْرية. وبينهما خطٌ رفيعٌ جداً قلّما اجتمعا في شاعرةٍ (أو شاعر) مُتفرّدةٍ بعينها. ففيما لوْ أعَدْنا نسْجَ أنساقِ القصيدة الواحدة كلّاً على حِدَة، في خواصها الفنيّة تعبيراً وتصويراً فإنّنا نغوصُ على نوافلِ كلٍّ منها بأريحيّةٍ لا عُسْرَ فيها، في آنٍ معاً: شاعريةُ الدِّفْقِ بأحاسيسَ جوانيَّةٍ على الفِطْرة، وسياقُ التَّجلّيات في المُحايثةِ بينَ الشِّعر والنَّثر. الشاعريةُ التي هيَ تَسبِقُ شِعْرية النصّ بعاطفةِ الصّدق المُطْمَئِنّ والمُطَمْئِن، والتي هي مِنْ مضاعفاتِ الانفعالِ الجميل للذّات والشَّغَفِ البريء لأشكالها الحيرى: ضعفاً وقوّة، نبرةً وهَمِسا، صخباً وسكينة، بل حضوراً وغياباً بكُلِّ غواياتِ التَّرْحال والتسآلِ المُثارةِ والمُسْتَنزَفَة بينَ الوهم والحقيقة، مما لا نمسكُ بهِ إلا نادراً اليوم في مُدوَّناتِ الشِّعْر الأنثوي المحليّ. إلى شِعْريةِ التَّخييل المُنعكسِ نظماً على جسدِ الوَرَق والذي تعترفُ فيه مارلين سعاده أنهُ يقتربُ مِنَ النَّثْر ولا يُغادِرُ الشِّعر، بتقنيات قصائدها التي تُجافي الصَّنْعة والكَلِماتِ المُسِنَّة، ولا تُمارِسُ الصُّدْفَةَ بجمالياتِ الصُّورة الفنّية، ولا إعياءَ المَقُولِ الشِّعري بإسقاطاتٍ مُردَّدَة مُقيَّدَة بمفرداتِ مُكَرّرة أصبحتْ معروفة. الشِّعريةُ هنا هيَ بريدُ الرَّغبةِ التي تهزُّ القارئ، وتدخلُ فيه دونَ معاناة، فالشِّعْرُ بميزانِ قارئِهِ وليسَ قائِلِه!

الحالتانِ تكتُبانِ مواقيتَ الرّكُونِ إلى بَلْورةِ تجربةٍ غنيّة بأبعاد روحية تحترفُ الاصغاءَ الى تشظّي الرُّوح الانسانيّ وهوَ يواجِهُ قلَقَ وجوده، وتَبْنِيانِ فينا خوارزميّةَ العطَشِ بينَ نَهَرِ اللُّغَةِ ودِلْتا المشاعرِ دونَ ارتواء، وربّما اختزالَ القصائدِ في امرأةٍ تذرفُ مِنْ روحها البلّوريةِ لتكتب شِعراً بِمِرْوَدِ الاحتضار. ففي الغَاداتِ مِنْ كلماتها المُشْرقةِ بالشُّحناتِ البلاغية لم تكتمْ سعاده صدَحَ النّكهة الشّعرية في جدْولةِ أحاسيسها التي تكابِدُ التَّلَبُّثَ على محاتدِ القوّة في إثباتِ الذّات وتَتَجَشَّمُ حشرجَةَ الكلماتِ وهيَ تنزفُ حتى الدخول في أديمِ العدم ذي المُفارقات بعدَ رحيلِ الحبيب:

أتحيا بَعْدَ الكلماتِ وقد هجرَ وحْيُ إلهامكَ قلبي وداري؟

يبِسَتْ قصائدي، ذبُلَتْ عناقيدي ... لمْ يبقَ مِنْكَ سوى تذكارِ!

إلى أنْ تسقطَ أمامَهُ في الفضاءِ عينِه:

حفرتُ اسمي في قلبِ التّاريخ

بشهبِ يراعي وبارقِ حرفي

وصرتُ الحكايةَ، وصرتُ الرّواية...

وبقيتَ وحدكَ نقطةَ ضَعْفي!

هو كتابُ الأنا، الذّات، الدَّفينُ المُتَضاد . وهوَ كتابُ الآخَر، المُوازي، المُلوّن الغوي، القويّ . وهوَ كتابُ الوجود، التَّطْواف ، المُتماهي، المُحيَّر اللانهائي. وهوَ بلا شكّ سجْنٌ بروعةِ قَصْر لسجينٍ برُتبةِ ملِيك! هوَ كلُّ اولئكَ الأُوال والأَوال في حرَمِ الشِّعر المُتولِّدِ منْ رحمِ الحياة السندباديّة الغائلةِ جنوناً ومساجلة بينَ النّد والنّد: خيراً وشرا، حبّاً وكُرها ، طاعةً ومعْصية. وهوَ إذْ "يستنزفُ الحياة" تلك، كما يقولُ دريدا إلا أنَّهُ حتماً فعلُ الصُّعود منْ رمالِ الشِّعر المُتحركّة حتى مشيئةِ أنْ نكونَ أسرى المَوتِ النُّخْبويّ على أقدامِ القصيدة. تقول سعاده:

لنرتمي معاً على أجنحةِ الشَّوق

فتحملنا خلفَ حدودِ المكان

وقودُنا نغمةٌ وذكرى

ترتحلُ بنا إلى الهُناك

حيثُ لا ضجيج، لا مواعيدَ ولا أحزان!

لكنَّ الأنا / الآخر/ الوجود تُضْحِي جميعها طوداً واحداً مِنْ ميثولوجيا بوهيميّة تُكَوِّنُنا جسداً وروحاً بينِ دفتّي الديوان، وتُفَسِّرُ مجازاتِ كيمياءِ الجَمَال على منحدراتِ النُّصوص، بينَ شذراتِ التّعابير المُدلّلَة، وسفوحِ المفردات المُرَتَّبَةِ بالنَّبْضِ على سلالمِ عِشْقِنا، وشفْشفَةِ عَنْدلاتِ الشِّعر فوقَ تكايا شفاهنا، وشقْشقَةِ الزّقْزقاتِ على منقارِ عصفورٍ حزينٍ، مُهاجِر. إحساسُ المآقي النّاعسة، وجفاءُ اللَّفْظةِ العانِس، على متْنِ الجُملة الشعرية الحَرون التي لا تقترفُ التقشُّفَ، والتي تُثْبِتُ لنا أنَّ المُبْحِرِينَ كبرياءً في العربيّة هُمُ الشُّعراءُ الحقيقيّون:

يا وجوداً يوقظُ حنيني وإلى دروبِ الشِّعْر والألهامِ يناديني

يحلِّقُ بي في دُنْيا، سماؤها سِحْرٌ نسيمُها شوقي، وعطرُها حنيني...

تدعوني لأُبْحِرَ نحوَ مرفأ حبِّكَ بقريضي وتوقي إلى عينيكَ يُغريني

بحاراً أصيرُ، خواطري مجاذيفي منْ أرضِ الواقع تحمِلُني

وإلى عالمكَ تهديني!

وتحطُّ بي في مرفأ حُبّكَ وبينَ ذراعيكَ وعلى صدركَ ترميني!

والعزْفُ لا ينتهي على الوَتينِ الشجيّ في رحلةِ الوصولِ إلى الفؤادِ النقيّ، ولا مفرَّ منَ القولِ أنَّ الرِّسالةَ قدْ وصلَتْ قبلَ وصولِ القافلة. ودونَ انتظارِ الرَّد، تسوقُنا أوردةُ الفِكْر إلى الكليّ الأثَر (total effect) الذي هوَ نتيجةُ توالي الثّيمات منْ أوّل الدّيوان إلى نهايته تُمْسِكُ بهِ سعاده بشكلٍ أرسطي لا مفرَّ مِنَ الاعجابِ بهِ، ويؤكِّدُ وعْيها بصيغةِ الالتزام بينَ الكلمةِ المُلِحَّةِ والمعنى المولودِ فيها دونَ خيانَةِ الذّائقة الخاصّة في رحلةِ الوصولِ تلك إلى وجدانِ القارئ ومِلْئِهِ فِكراً:

سألتُ الفِكْر: لم لا يجودُ عليَّ بما قد أرومُ مِنْ عِبَرْ؟!

فأطرقَ صمْتاً يحوطُ المعاني لا يرضى بوحاً بسرٍّ ضُمِرْ!

وخلفَ السُّكوتِ لمحْتُ بريقاً يشي بما تحْتَ الصّخورِ مِنْ دُررْ!

 [email protected]       

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم