الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

حسابات " كورونا"... بين العولمة والأصالة

المصدر: النهار
د. باسم عثمان الكاتب والباحث السياسي
حسابات " كورونا"... بين العولمة والأصالة
حسابات " كورونا"... بين العولمة والأصالة
A+ A-

 تمهيد:

، في إطار احتواء الصراعات والخلافات التجارية والاقتصادية بينهما، حيث تزامن هذا مع ما صرح به المتحدث باسم الخارجية الصينية، واتهامه الجنود الأميركيين بنشر الفيروس، أثناء دورة الألعاب العالمية العسكرية بمدينة ووهان عام 2019، وكان اتهاماً واضحاً وصريحاً لأميركا بكامل المسؤولية عن نشر الفيروس، في الوقت الذي قابله تصريح لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو: "فيروس ووهان"، ومن بعده تصريح الرئيس الأميركي ترامب: "الفيروس الصيني"، والذي قوبل باستنكار شديد من الصين لاتهامها بالمسؤولية عن تصنيع الفيروس، ضمن منظومة الحرب البيولوجية وسباق التسلح بين الدول الكبرى.

والحقيقة تقول، إن الصين أنبرت لتقديم المساعدة للعديد من دول العالم كإيطاليا وإيران وغيرهما من الدول المنكوبة لمكافحة الفيروس، بينما أميركا انكفأت وانشغلت بداخلها الأميركي، ولم تلمّح أو تصرّح بأنها بصدد مساعدة العالم على مواجهة هذا الفيروس، لدرجة أنها لم تكلف نفسها عناء رفع العقوبات الاقتصادية عن الدول المنكوبة به، حتى تتمكن من مواجهة خطر كورونا، والتي تفرض عليها عقوبات وحصاراً اقتصادياً منذ زمن، بل على العكس، جددت العقوبات من جديد في زمن كورونا، في الوقت الذي حاول فيه ترامب مراراً ولكنه فشل في الحصول على اللقاح حصرياً لأميركا من شركة ألمانية، وردّت عليه ألمانيا بأن اللقاح والدواء حق لكل البشر وليس سلعة احتكارية ربحية، ذلك ما يعزز الاتهام بأن أميركا هي المسؤولة عن هذا الفعل الوبائي واللاإنساني بشكل مباشر أو غير مباشر، وإن الانهيار الاقتصادي في العديد من القطاعات والشركات والبورصات العالمية، قد لا يبرّئ الشركات الاقتصادية العملاقة وخاصة الأميركية منها، ونفوذها السياسي والبحثي وعلاقتهما بأجهزة الاستخبارات العالمية، من المسؤولية عن المساهمة بتمويل أبحاث كورونا وانتشاره.

الأزمات الوبائية ودورها في حياتنا:

يترك فيروس كورونا "المستجد" بصمته على كل نواحي الحياة في البلدان الغنية والفقيرة، فالعديد من دول العالم شلّت حركتها وأغلقت حدودها، وتباطأت فيها أو شُلّت حركة التجارة والاقتصاد، ذلك يطرح تساؤلاً، حول الأثر الذي تخلّفه الأوبئة الجرثومية الكبرى على المجتمعات وعلاقاتها التبادلية والاجتماعية والعلمية وحتى الأخلاقية والإنسانية.

في السياق، نلحظ أن للأزمات مهما كانت مأسوية، جوانب إيجابية لا تحصى، فهي تدق جرس الإنذار وناقوس الخطر لتوقظ البشرية من غفلتها، وتحفزها لإنتاج نماذج جديدة في العمل والعلاقات الإنسانية، ما كانت لتولد وتظهر، لو استمرت البشرية في تعاطيها لنماذج العلاقات والعمل القديمة، التي ضاقت بها "الطفرة النوعية" الاقتصادية والتقنية في الاقتصاد العالمي، وهو ما يراه مؤرخ العلوم لوران هنري فينيو من جامعة بورغوني الفرنسية ان "انتشار وباء ما يشكل دوماً امتحاناً لمجتمع وحقبة، وعلاقات تبادل بالية واهتمامات هامشية".

اليوم، ووسط الرعب المتزايد عن مصير العالم في ظل انتشار كورونا المستجد، لا يخلو الحديث عن التغيرات التي سيشهدها العالم في مرحلة ما بعد كورونا، لأنه ما من شك، أن "الجندي كورونا"،مثله مثل أي أزمة وبائية أو حرب عالمية تقليدية ستهز العالم بأسره، من شأنه أن يغير مفاهيم ونماذج العمل (في البنى التحتية والفوقية)، التي ما كانت لتتغير من مرحلة لأخرى، لولا ضرورة الأزمة واستحقاقاتها العملية بإنتاج مفاهيمها الخاصة في طبيعة علاقات التبادل والأولويات، لذلك ومن باب الاعتقاد، أن دول العالم وخصوصاً الغنية منها، واتحاداتها العالمية الاحتكارية العابرة للقارات، ما كانت لتخرج من عنق الزجاجة ونظام عملها القديم – الاحتكاري والاستغلالي ــ لتبحث جدياً في كيفية اعتماد أنظمة وأنماط عمل جديدة في كافة ميادين الحياة بأولوياتها المستحقة، لولا الأمر الواقع الذي أحدثه فيروس كورونا و"مفاعيله" على الصعيد المجتمعي الدولي، والذي عجزت عن تبنيه واستبصار نتائجه، كبرى الاجتماعات الدولية للدول الصناعية والغنية، في ما يتعلق بحقائق: (الانبعاث الحراري وتلوث البيئة، الاستغلال الجائر لموارد الطبيعة، التعاون الدولي للحفاظ على البحار والمحيطات وثرواتها، احترام الإنسان لقيمته الإنسانية في الحرية والعدالة الاجتماعية، استباحة سيادة الدول الفقيرة وجعلها سوقاً استهلاكية لمنتوجاتهم. الخ) في نظام عالمي تبادلي استغلالي يقوم على "عولمة الغني والفقير، القوي والضعيف".

لذلك، فيروس كورونا يضع النظام العالمي السائد أمام صحوة الصدمة، وفرض عليه مناقشة كل إجراءاته وأنظمة عمله وأولويات اهتماماته، وانه – أي كورونا ــ صاحب القرار في التغيير الحتمي لمجموع النظم الاقتصادية العالمية، ومنظومتها السياسية والاجتماعية والثقافية.

ربما ستكون سنة 2020، أنظف سنة في تاريخ البشرية، بعد أن زاد الناس من وتيرة نظافتهم، وجميع الدول اعتبرت كورونا فرصة للتعقيم الشامل، فقد حذر العديد من العلماء والهيئات المختصة ودقوا ناقوس الخطر في أكثر من مناسبة وبأكثر من توصية، من فداحة التلوث البيئي والاحتباس الحراري للمناخ، وتلوّث البيئة من الغازات والعوادم لمصانع الأغنياء، ولكن "لا حياة لمن تنادي"، ولكن حسب تقديرات العلماء والباحثين، إنه وبفضل كورونا،فإن مستويات تلوث الهواء والغازات الدفيئة أظهرت انخفاضاً كبيراً فوق عدد من المدن والمناطق حول العالم، بسبب إجراءات الحظر المفروضة، وهناك علماء من نيويورك، وجدوا ان مستويات أول أوكسيد الكربون الناتج عن السيارات انخفض بنسبة 50 بالمئة مقارنة بالعام الماضي، كما انخفضت انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بشكل حاد، وأظهرت صور الأقمار الصناعية في إيطاليا انخفاضاً حادًّا في تلوث الهواء فوق شمال البلاد، كما لاحظت أيضاً وكالة الفضاء الأوروبية، انخفاضاً حادًّا في انبعاث ثاني أوكسيد النيتروجين، المنبعث من محطات توليد الطاقة والمصانع فوق شمال إيطاليا.

أما في الصين، ووفقاً لتحليل أجراه أحد العلماء في جامعة ستانفورد، قام بقياس مستويات (ب.م 2.5) وهي مادة دقيقة جداً، وتعتبر المسبب الرئيسي للوفاة بسبب تلوث الهواء، تبين أن إجراءات الحجر خلال شهرين في الصين، من شأنها: "إنقاذ حياة 4 آلاف طفل تحت سن الخامسة، و73 ألفاً فوق سن السبعين". وقال علماء آخرون "إن عدد الأرواح التي سيتم إنقاذها جراء انخفاض معدلات التلوث في الصين، أكثر (20 مرة) من عدد الأرواح التي فقدت نتيجة كورونا" وفق مجلة فوربس. كما لوحظ في الصين أيضاً، تحسن جودة الهواء في بكين بنسبة 21.5 بالمئة بتوقف المصانع والملاحة الجوية، وفق وزارة البيئة الصينية، في الوقت، الذي تربعت فيه الصين على عرش حجم الانبعاثات الغازية لمصانعها، والتي بلغت 30 بالمئة عالمياً في العام الماضي.

استراحة محارب:

لذلك نقول، إن الأرض وغلافها الجوي ومواردها المستنزفة، ربما تحتاج الآن إلى استراحة ما، لكي تتصالح مع نفسها وتعيد إنتاج دورة حياتها الطبيعية وتوازنها من جديد، حيث بعثت برسالتها الأولى (كورونا) إلى كل الطامعين والمستغلين لسيرتها الأولى، ولربما أيضاً شوارعها تحتاج الى خلع ثيابها والاستجمام تحت أشعة الشمس لوحدها، دون أن يعكر صفوها أحد منا، فقد أقلقها ضجيج السيارات وعوادمها، والعربات والمارة ونفاياتهم.

ولربما تحتاج المدارس والجامعات والمعاهد إلى استراحة محارب، لتعود من جديد وبروح مختلفة، وقيمة علمية تحاكي الإنسانية روحاً وشعوراً، و لربما تغلق الأسواق أبوابها، لكي تمنحنا فرصة بان نتوازن في طبيعتنا الإنسانية، وننحاز للقيمة على حساب المادة، وأن يستوي فينا الغني والفقير في العيش الكريم، وأيضاً اَن الأوان لمجلس الامن الدولي أن يغلق ابوابه وقاعته دون أصنامه، الذين ما انفكوا في نسج المؤامرات والحروب والقتل، بدافع الهيمنة والتسلط ومصادرة حقوق الشعوب في الحرية والعدالة الاجتماعية والسيادة، والسطو على مقدراتهم وثرواتهم، لصالح استعمارهم في شكله الجديد، في الحصار والعقوبات الاقتصادية وتجويع الشعوب وإفقارها.

نعم، لقد احتاجت المساجد والمعابد والكنائس إلى طرد روادها، حتى يتم تعقيم قلوبهم وأرواحهم قبل أجسادهم، وتعلن حالة حجر على مكنونها القيمي والروحاني، وترفع شعار "بكفّي" الإتجار بالدين وقبلته وفتاوى نصوصه، فأغلقت أبوابها تمرداً على زيغ القلوب والأنفس، حتى ترتدي الأجساد من جديد ثوب الطهر والنقاء، ولربما البحار والمحيطات اشتاقت إلى نقاء مياهها وصفائه وهدوء أمواجه، بعد أن أرهقتها مجاديف السفن وسممتها مخلفات المصانع العملاقة، وأقلقتها هدير البوارج الحربية، وأفزعتها التجارب النووية والهيدروجينية، التي غيرت من طبيعتها وروتين صيرورتها، فكان إنذارها الأول "تسونامي" غاضباً، ومن رحمتها ولطفها بنا، قررت أنها لن تكرر مأساته ثانية، فدعتنا إلى أعمال العقل والتدبر وحوار"القيمة للقيمة" للحفاظ على "قريتنا الصغيرة" من الاندثار. وكذلك العصافير والطيور، تحتاج لقيلولة واستراحة محارب، لتبسط أجنحتها على امتدادها في السماء بحرية، غير آبهة بالمعادن الطيارة وزحمة مرورها وسمومها، ولا بالصواريخ العابرة للقارات التي تخفي تحت أجنحتها الموت للناس المسالمين، لتعلن تحرير السماء من الغزو البشري وتماديه اللاأخلاقي لموطنها السيادي.

العقلانية المطلوبة:

إن "العقلانية العالمية" ولغة الحوار الواعي يتطلب، إعادة النظر في كل المنهج الاقتصادي العالمي، سياساته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتعامل مع البشرية انطلاقاً من قيمتها الإنسانية، والتخلي عن الجشع والنهب الأناني للمجتمعات المتقدمة على حساب الفقيرة، وإسقاط "العولمة" وكل آثارها واستحقاقاتها، التي حولت الإنسان إلى سلعة تبادلية في السوق العالمي، القائم على سباق التسلح بكل أشكاله، والحصار والعقوبات الاقتصادية وسياسة التجويع، على حساب حقوق الإنسان في الحرية والسيادة فوق ارضه وثرواتها، وتوفير الضمان الاجتماعي والصحي والعيش الكريم.

إن "العقلانية العالمية" ولغة الحوار يتطلب، حراكاً ثورياً عالمياً لإصلاح الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة، بما يضمن مصالح البشرية جمعاء، والحفاظ على ثروات الطبيعة ومخزوناتها من الاستغلال الجائر لمواردها، نظام عالمي (سياسي – اقتصادي) يقوم على التعاون والسلم العالميين وحوار الثقافات وليس تصارعها، بما ينهي كل أشكال العنصرية والتمييز والتسلط السياسي والاقتصادي والثقافي، كل آثارالعولمة ونتائجها الكارثية على المجتمعات، وخصوصاً التنموية منها والفقيرة.

نحتاج أن نتعلم ونتدبر ونتعظ ونحترم الطبيعة وقوانينها، لندافع عن آخر معاركنا في تقديس إنسانيتنا، ونعيد ترسيخ القيم والأخلاق التي غادرتنا.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم