الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

إنّي مخجولٌ من البلاد

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
إنّي مخجولٌ من البلاد
إنّي مخجولٌ من البلاد
A+ A-

أنا مخجول من نفسي، لانّي لا أستطيع أنْ أقوم ببعضٍ من واجباتي الأساسيّة حيال نفسي، وأهلي، وأصدقائي، وقضايايَ الكبرى، وبلادي على السواء.

ليس تقصيرًا، إنّما انصياعًا للضرورات.

أنا مخجولٌ مثلًا، من نفسي، لأنّي لم أستطع أنْ أحضر جنازة والدة صديقٍ عزيزٍ للغاية، بيني وبينه تسعةٌ وأربعون عامًا من الصداقة الوفيّة الخالية من أيّ عيبٍ أو نقيصة.

الأدهى، أنّه، أي الصديق، هو بالذات، لم يستطع، لوجوده خارج البلاد، أنْ يحضر الجنازة، بسبب الإجراءات الوقائيّة المعمول بها حاليًّا بين البلدان الخاضعة للحجر الصحّيّ.

حدثٌ كهذا، ينبغي للمرء أنّ يتهيّب أمامه، ويتواضع.

لأنّ حدثّا كهذا، يُنظَر إليه باعتبار أنّه يتخطّى فرديّته، ليصير حالةً رمزيّةً ودلاليّةً قد تصيب المرء في كلّ زمانٍ ومكان.

أنا مخجولٌ أيضًا وأيضًا، من نفسي، لأنّي – للسبب الوقائيّ ذاته - لم أضمّ ولم أقبّل "حشيشة قلبي"، ولا هو ضمّني وقبّلني، لدى عودته المستجدّة إلى ربوع هذا الوطن الموبوء بكلّ أنواع المفاسد والأمراض والآفات والأوبئة، المادّيّة والمعنويّة، فضلًا عن كون أهل الحكم فيه موبوئين بانعدام الأهليّة والاستحقاق والرؤية المنهجيّة، وبقصر النظر الوطنيّ والسياسيّ والمجتمعيّ والاقتصاديّ و... الأخلاقيّ والقيميّ.

إنّي مخجولٌ للغاية من نفسي.

على سيرة الخجل، إنّي مخجولٌ خصوصًا، وفي مثل هذا اليوم بالذات (14 آذار 2020)، من "لحظة 14 آذار" التاريخيّة، بسبب ما آلت إليه على أيدي "أحبابها" و"أعدائها" على السواء.

وإذا كان "الأعداء" لا يُلامون على عداوتهم لتلك "اللحظة"، فاللوم – بل يجب أنْ أستنجد بكلّ خيالٍ لوصف ما هو أعظم من اللوم – يقع على "الأحباب" الذين ضرّجوا "لحظة 14 آذار" في الصغائر، في التنازلات، في المساومات، في الوحول، في المستنقعات، في المجارير، ولا يزالون يمعنون في تضريجها، وتضريج الجمهوريّة والدولة والوطن، بكلّ أشكال العار والخساسة.

هؤلاء "الأحباب" – فضلًا عن "الأعداء" – يجمع في ما بينهم أنّهم "عائلة واحدة" على رغم كلّ التناقضات وتفاوت المسؤوليّات. ويجمع في ما بينهم أيضًا، أنّهم "دون"، وأنّهم أقلّ، أقلّ بكثيرٍ جدًّا، وبسنواتٍ ضوئيّة، ممّا ينبغي أنْ تتحلّى به طبقةٌ سياسيّة من وعيٍ لمعنى هذه البلاد، ومن سيادةٍ على الذات، ومن مفاهيم ومعايير وقيمٍ وأخلاق.

يا لخجل نفسي من هؤلاء، "أحبابًا" و"أعداء".

إنّي مخجولٌ أيضًا من نفسي، لأنّي أشعر بمسؤوليّةٍ مضاعفة حيال "17 تشرين"، هذا الحدث الفريد اللامسبوق في حياتنا الوطنيّة.

إنّي مخجولٌ – يا لخجلي الذي لا يُحَدّ ولا يوصًف – لأنّ "17 تشرين" تستحقّ أكثر ممّا أعطيناها، وممّا نعطيها، شيوخًا ومخضرمين وشبابًا.

أستخدم صيغة نون الجماعة، تفاديًا لِما يمكن أنْ يُؤَّول به استخدام "الأنا"، من مزاعم وادّعاءاتٍ وانتفاخاتٍ ونرجسيّات.

إنّها، أي "17 تشرين"، تستحقّ، بلا تردّد، أنْ تكون ولادةً جديدةً للجمهوريّة. لكنّ الجمهوريّة لا تزال، كما الدولة، في الأسر، في الاحتلال، في القبر، حيث يقيم "آباء" هذه السلطة المقيتة، وحيث يتفشّى وباؤهم ووباؤها، وهو أخطر وأدهى وأعظم من كلّ وباءٍ راهنٍ آخر.

ولأنّ "17 تشرين" تستحقّ، أجد نفسي مدعوًّا إلى تطهير ذاتي من الخجل، باحثًا عمّا تستحقّه هذه الـ"17 تشرين"، لكي تكون تاريخًا لولادة دولة السيادة والحرّيّة والاستقلال.

إنّي مخجولٌ من نفسي، لأنّ نفسي هي أقلّ ممّا تستحقّه هذه البلاد.

هذا الخجل، فلنحوّله، شيوخًا ومخضرمين وشبابًا، إلى ثورةٍ تغييريّة جامحة، تودي بالسلطة، بـ"الأحباب" و"الأعداء" فيها... فقط لأنّ على أرض هذه البلاد ما يستحقّ، ولأنّ هذه البلاد نفسها تستحقّ!

[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم