السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

قراءة في ضرورات الثورة اللبنانية وإنجازاتها وآليات استدامتها

حارث سليمان
قراءة في ضرورات الثورة اللبنانية وإنجازاتها وآليات استدامتها
قراءة في ضرورات الثورة اللبنانية وإنجازاتها وآليات استدامتها
A+ A-

1- سنوات عجاف

لاحت في أفق لبنان أنواء عاصفة مخيفة، تتكثف فيها أزمة شاملة بوجوهها الاقتصادية والمالية والنقدية، وطالت الأزمة كل شعب لبنان، بكافة فئاته ومناطقه، ونالت من حقوقه الأساسية بحياة كريمة ومستقرة، وشعر اللبنانيون بخطر داهم يهدد نمط عيشهم وأعمالهم، إضافة إلى تعثر تأمين مستلزمات عائلاتهم اليومية.

وشهد لبنان ظاهرة إضافية غير مسبوقة في تاريخه، وارتكابات تخالف قانون النقد والتسليف، وهي امتناع نظامه المصرفي عن الإيفاء بالتزاماته تجاه مودعيه وحقوق زبائنه، فيما تبدى خطر جدي يطال مدّخرات اللبنانيين وودائعهم، وتهاوى سعر العملة الوطنية اللبنانية أمام الورقة الخضراء بنسب وصلت إلى 40 % من قيمتها، فيما ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بأكثر من نسبة تدني عملتهم الوطنية، وتقلصت بشكل كبير تحويلات واعتمادات التجارة الخارجية فتأثرت قطاعات الطبابة والاستشفاء واضطربت إمدادات تزويد الاستهلاك بالطحين والوقود والغاز المنزلي، كما تدنت القدرات الشرائية لرواتب العاملين والموظفين الذين يتقاضونها بالليرة اللبنانية.

وكان قد سبق مشهد الانهيار هذا، انكشاف سلسلة متتالية من ملفات الفشل في إدارة مرافق الدولة وخدماتها العامة سواء بسواء: في الكهرباء والاتصالات والطرق وأنظمة السير والنفايات المنزلية وإطفاء الحرائق، كما في شبكات مياه الشفة في المنازل، أو شبكات الصرف الصحي، وهي ملفات سادها غياب جودة المواصفة وافتقاد كفاءة الخدمة مع ارتفاع التكلفة وغلاء أسعارها.

في موازاة ما تقدم استمر الاستيلاء على الأملاك البحرية والنهرية، وتمادى أمراء الميليشيات في تحويل أموال المؤسسات العامة في الريجي ومصالح المياه والمرفأ والكازينو وشركات انترا وأوجيرو إلى تنفيعات تدفع لحاشياتهم، وتلوثت البيئة والأنهار واستبيحت جبال لبنان بالكسارات والمقالع، وأصبح التهرب الجمركي ومعابر التهريب الحدودية نظام عمل شاملاً يقيم اقتصاداً أسود موازياً يقتطع 30% من السوق اللبنانية ويضعف الاقتصاد الشرعي، ويستنزف موارد خزينة الدولة وماليتها العامة.

الفشل في إدارة مرافق الدولة لعدم الكفاءة، الإثراء من السلطة وسرقة الأموال والممتلكات العامة، واستغلال الصفقات العمومية وتعهدات الدولة ومشاريعها لصرف النفوذ والتربح من المنصب العام، والعبث بأموال البلديات وأملاكها، والتلاعب بأرصدة الضمان الاجتماعي وصناديق تقاعد العاملين في القطاع العام، وهدر موارد الدولة في عمليات فسادٍ، يتقاذف الاتهامات بارتكابها، أطراف السلطة السياسية، بشكل دوري ومتبادل، وممارسة الزبائنية السياسية وتحويل الإدارة إلى دولة محاسيب غير منتجة ومتضخمة، بعد تجاوز معايير قانون الموظفين وصلاحيات مجلس الخدمة المدنية، لتشكل هذه الادارة عبئاً على الموازنة العامة والتمادي في عدم حل معضلة عجز الكهرباء، والمبالغة المفرطة بإنشاء سدود مائية عالية التكلفة، منخفضة الجدوى، دون مراعاة لأثرها السلبي على البيئة، كل ذلك حول السلطة إلى آلة نهب وأصبح الناس موضوع نهب.

2. شراء الوقت بطباعة النقد

كما تم اتباع سياسة نقدية تعتمد استجرار الودائع والتحويلات الخارجية بفوائد عالية الكلفة، لتمويل عجز مزدوج مستمر ومتراكم في موازنات الدولة السنوية من ناحية أولى، وفي ميزان المدفوعات الوطني من ناحية ثانية، وعلى مدى سبع سنوات متوالية، فيما قلصت إدارات المصارف اللبنانية من استثماراتها في الاقتصاد الحقيقي وفي لعب دورها الطبيعي المفترض لها كمساهم رئيسي في التنمية، وفي تشجيع استثمارات مستدامة في القطاعات الإنتاجية، وخلق فرص عمل جديدة للأجيال اللبنانية الشابة، واكتفت بتسليف مصرف لبنان بكل ما يحتاجه من رساميل لتمويل سلطة فاسدة فاشلة، وبتمويل قطاعات محددة في التطوير العقاري والتجارة الخارجية، الممارسات هذه، حولت النظام المصرفي اللبناني، الذي تغنى به اصحابه عشرات السنين، حولته إلى حوانيت ربا فاحش، وجعلت كل من تبوأ شأناً عاماً، موضوع مساءلة أو تهمة.

وقد سهل هذه الارتكابات وعممها، استتباع القضاء من قبل نافذي السلطة والأحزاب الطائفية، مع تقليص متعمد لأدوار أجهزة الرقابة والمحاسبة العمومية، من ديوان المحاسبة إلى التفتيش المركزي مالياً كان أو إدارياً، كل ذلك أوصل إلى كارثة شاملة.

3. خلل سياسي في بنية السلطة

لم يكن هذا السلوك الذي خلخل بنيان لبنان وهيكلياته، ممكناً أن يحدث أو أن يتمادى ويستمر، لولا الخلل السياسي في بنية السلطة ومؤسساتها السياسية والدستورية وفقدانِ الدولة لسيادتها على حدودها وداخل حدودها، ولولا الإمعان في ممارسة الحكم من خارج المؤسسات الدستورية تارة بتعطيلها وأخرى بتطويعها، وذلك عبر انتهاكٍ واضحٍ للقانون والدستور، وباللجوء إلى القوة السافرة أو التهديد بها، لتعديل موازين القوى السياسية وتشويه النظام البرلماني اللبناني، ولَيْ عُنقِ النصوص الدستورية والقانونية، بغرض فرض غلبةٍ سافرة، تجعل من لبنانَ جرماً في منظومة الممانعة الاقليمية. تأسس هذا الأمر خلال الوصاية السورية واستمر بوضوح بعد اتفاق الدوحة وانتقال لبنان إلى وصاية أخرى.

في الموقع الجيوـ سياسي الجديد هذا، فقد لبنان دوره التقليدي كمركز اقليمي للاستثمار والخدمات والتسوق والسياحة، بعد أن تَحوّل متراساً متقدماً لمنظومة الممانعة ومخيماً لمئات آلاف اللاجئين عبر فريق لبناني مسلح، مارس غلبته الداخلية لكي يستسهل الانخراط في حروب إقليمية وعداوات دولية وعربية متعددة، ولم يكن احتلال وسط بيروت لإقفال البرلمان ومنع انتخاب رئيس جمهورية سنة ٢٠٠٧، وشل حركة وسط بيروت الاقتصادية وتحويله إلى هياكل مهجورة، سوى مثال واضح من عدة أمثلة، لأثر الاستقواء السياسي على النشاط التجاري وضرب فرص الاستثمار، كما بينت أزمة احتجاز حجاج العتبات الدينية الشيعية في مدينة أعزاز شمال سورية، وما تلاها من استهداف الوافدين والرعايا العرب وخطفهم، من قبل أجهزة تغطت بأجنحه عائلية مسلحة، بينت هذه الأزمة الأثر الكارثي على السياحة والقطاع الفندقي، لانخراط طرف لبناني في الفتن والحروب الأهلية في الجوار المشرقي.

كل ذلك أنهك اقتصاد لبنان، وشوه صورته لدى رواد ربوعه والمستثمرين في اقتصاده، وفقدت بيروت ريادتها في عالم الثقافة والاستشفاء والإعلام والفنون والتعليم العالي، وترنحت قطاعات لبنان الإنتاجية، وفقد الاقتصاد اللبناني القدرة على خلق فرص عمل كافية لاستيعاب موارده البشرية والكفاءات العالية لشبابه، وخسر ميزان المدفوعات اللبناني، فائضه التقليدي منذ استقلال لبنان، فتضاعفت مرتين مستورداته من الطحين والبنزين وثلاثة أضعاف من الفيول، تحت وطأة المأساة السورية وتداعياتها، وتقلصت خياراته داخل عزلة صنعها انفصال سياساته عن خيارات مداه العربي وصداقاته الدولية التقليدية.

يصف العالم الألماني ماكس فيبر «الدولة الفاشلة»: "هي التي تغيب فيها السيطرة الكاملة للدولة على أراضيها، وتتراجع فيها القدرة على الاستخدام المشروع لوسائل القوة، وتتآكل فيها السلطة الشرعية لصنع القرار، وتنعدم فيها القدرة على توفير الخدمات العامة، وينتشر فيها الفساد والجريمة، ويتدهور فيها الاقتصاد، ويتفلّت فيها العنف الطائفي". لا تتصف الدولة اللبنانية، بكل هذه المواصفات فحسب، بل تضيف اليها؛ غياب الإعلام الناجح، وتآكل الحيز العام، والعجز عن إقامة قضاء نزيه ومستقل، والخروج عن الدستور والقوانين المرعية الإجراء، وصرف أموال الدولة خارج الأصول القانونية المالية.

4. قيم وطنية حديثة

في مواجهة الواقع هذا، وعندما اكتشف اللبنانيون جميعاً أنهم خدعوا من كل تسلم ادارة أمورهم وأملاكهم، انفجرت انتفاضة شعبية شاملة وتصاعدت إلى شبه ثورة، انتفاضة لا تتناول فقط تعديل موازين القوى في السلطة، وتبديل غلبة طائفية حزبية بغلبة أخرى، وهي لعبة أجادت احزاب السلطة استغلالها وجعلها صمام أمان لاستمرارها، بل هي ثورة تهدف إلى اسقاط السلطة كلها، وطرد أحزاب الطوائف من الحكومة، وتصبو إلى تغيير عميق، يرسي مجموعة من القيم الجديدة التي تم إطلاقها على كل لسان، في كل ساحات الحراك. هذه القيم هي:

1_ نبذ الطائفية وتبني المواطنة لبناء دولة القانون والمؤسسات والدولة المدنية.

2_ إدانة الفساد كجريمة بحق الوطن والناس والدعوة لاستعادة الأموال المنهوبة.

3_ إدانة العنف والالتزام بالثورة السلمية وعدم ممارسته، حتى لو تعرض الثوار إلى عنف مقابل.

4 - اعلان الخروج من عباءة الزعيم، وإدانة أحزاب السلطة الحاكمة، والتبرؤ منها ومنعها من الانخراط بالحراك وقبول قواعدها كأفراد تخلوا عن أحزابهم.

5_ ظاهرتان إضافيتان واعدتان في بنية الانتفاضة وقواها أكدتا:

• مشاركة المرأة بشكل طليعي

• وتصدر الشباب من الجيل الجديد لوضع أجندة الثورة وشعاراتها.

بعد 12 يوماً، من اندلاع الانتفاضة، قدم الرئيس الحريري استقالة حكومته، يقول مثل فرنسي: "عندما يشير الإصبع للقمر، ينظر الأحمق إلى الإصبع" - لم تفهم قوى السلطة معنى ثورة شعب لبنان أو لم ترد أن تفهم، وهي ثورة وضعت أجندة متدرجة، لكنها شاملة، لتغيير كامل في السلطة، وطرد أحزاب الطوائف من جنة الحكم، وفي الوقت الذي كانت ساحات لبنان ترنو بأعين آلاف الثوار فيها إلى حكومة تنتشل لبنان من أزمته وتُجَنِّبَه كارثة الجوع والانهيار، تم الذهاب إلى حكومة مستشارين لأطراف السلطة السياسية ذاتها، وأجبر الشعب على الدوران في نفس الصحن القديم.

لم يكن ينقص لبنان لتشديد الخناق على شعبه وإرساله إلى هاوية مجهولة القاع، سوى انفجار المواجهة بين أميركا وإيران في العراق، بعد قيام ادارة الرئيس الأميركي ترامب باغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، والتي وضعت لبنان على جدول أعمال الثأر لسليماني، وجر لبنان شعباً وموقعاً إليها، وبعد احتمال استدراجه لاستراتيجية يتولي فيها المساهمة بإنهاء الوجود والنفوذ الأميركي في المنطقة.

5. خط المواجهة

فيما تقدم يبدو واضحاً إلى أين وصلنا، فماذا بعد وإلى أين نتجه، وعلى أية قضايا يستمر الصراع والنضال. والإجابة بسيطة وسهلة:

• الصراع على تحديد من يتحمل تكاليف الأزمة وأعبائها أولاً؟ أي كيف توزع خسائر الكارثة، هل يدفع أثمانها من استباح الدولة وماليتها العامة؟ وهل تستعاد منهم الأموال التي سرقوها؟ وهل تستعاد من أرباح أصحاب المصارف وإداراتها ومساهميها وكبار المودعين فيها، وهي أرباح جنوها من فوائد غير شرعية وغير منطقية على مدار عشر سنوات على الأقل؟ وأي الودائع ستتم المحافظة عليها أو التحفظ على حركتها؟ وعلى حساب من سيجري تخفيض قيمة الدين العام من ٨٦ مليار دولار إلى أقل من ٤٠ مليار دولار، ومن سيدفع هذا الفارق الهائل!؟ وكيف سيطبق تشريع الـ Capitale controle الذي تعتمده المصارف اليوم بشكل غير قانوني وبطريقة انتقائية، وانطلاقاً من أي تاريخ ومفعول رجعي سيطبق؟ هل من تاريخ الفضيحة في ١٧ تشرين ٢٠١٩، أو من تاريخ الازمة في نهاية سنة ٢٠١٨ وهو خيار إذا ما تم اعتماده، سيعيد حوالي ٢٧ مليار$ إلى لبنان وودائعه، ويتبدى سؤال خطير لحاكم مصرف لبنان لماذا لم يلجأ إلى الـCapitale Controle منذ نهاية سنة ٢٠١٨، ولماذا لم يجرِ تخفيض الفائدة على الودائع منذ ذلك التاريخ؟ وما هو حجم الاقتطاع من الأجور المرتبط برواتب اللبنانيين جميعاً الذي هو نتيجة فعلية لانهيار سعر الليرة وباي مقدار؟


• والصراع يستمر حول طبيعة السلطة البديلة التي ستتولى تنفيذ المهمة من جهة أولى، وعلى من يتولى إعادة بناء الدولة والاقتصاد اللبناني من جهة ثانية.

فأحزاب السلطة التي أساءت إدارة لبنان على مدى خمسين عاماً، واستباحت أملاكه ومرافقه العامة وعطلت عمل مؤسساته الدستورية وخربت أجهزة الدولة وإدارتها، وسرقت ودائع اللبنانيين وجنى أعمارهم، وانكشفت أمام دول العالم، كشريحة عاجزة وفاشلة وفاسدة، وبالرغم من ذلك، مازالت هذه الطبقة السياسية متمسكة باستمرار بقائها، وما زالت مصرة على النجاة بجرائمها وارتكاباتها، وهي تنوي، ليس تحميل الشعب أثمان الأزمة فحسب، بل التربح والاستفادة من تداعيات كارثة صنعتها بأيديها.

على مفترق هذه الخيارات تتفاقم كارثة لبنان وتتعمق بين خيارات متناقضة لا تصالح أو تساكن بينها، فأمامنا حكومة لون واحد، تجري فيها محاصصة حاملي شهادات جامعية، ويخضعون بقراراتهم وخياراتهم لأحزابها، فيما مطلب الثورة وفرصة انقاذ لبنان تتطلب حكومة مختلفة عنها، تتألف من كفاءات مستقلة وترسل أحزاب السلطة إلى اجازة قسرية. كما يتطلب هذا الإنقاذ الخروج إلى موقع النأي بالنفس الفعلي، مما يسمح بتأهيل لبنان ليعود إلى كنف الاحتضان العربي والدولي، ويمكّنه من الاستعانة بدعم دولي وعربي يخفف تداعيات الأزمة ويلطف خسائرها وآلامها.

لذلك يصبح انتصار الثورة وتحقيق مطالبها وأهدافها، بإسقاط هذه السلطة السياسية، وإعادة بناء دولة مدنية حديثة أمراً ملحاً، عادلاً ، شرعياً، ضرورياً وممكناً.

ملح: لأننا نواجه كارثة تهدد عيش كل لبناني في كل لبنان.

عادل: لأن هذا الانتصار يكفل محاسبة فاسدين أساؤوا إلى وطن وشعب.

شرعي: بعد أن فقدت السلطة شرعيتها بتعطيل وظائف الدولة ومؤسساتها والحكم من خارج الدستور والقانون والعجز عن تسيير خدمات الدولة ومرافقها العامة.

ضروري: لأنه بغير إعادة إنتاج سلطة بديلة، لا رغبة لأحزاب هذه السلطة ولا قدرة لها على إخراج لبنان من الكارثة ولا مصلحة لها في قيام دولة حديثة.

ممكن: لأن هذه السلطة ونظامها السياسي المعلق برافعات خارجية وبرعايات إقليمية لأطرافها، صنعت سلطتها وأدامت هيمنتها على جمهورها ومحازبيها. هذه السلطة والنظام هما في لحظة ضعف مفصلية حيث اهتزت داخلياً ولاءات أتباعهما القائمة على الزبائنية والفساد، بعد أن تقلصت موارد الدولة ووظائفها، كما توقفت مساعدات الرعاية الخارجية وتعطلت رافعات أطرافهما الإقليمية.

6. الثورة؛ إنجازات

حققت الثورة في فترة قصيرة إنجازات هامة وجوهرية، منها:

• صياغة أجندة سياسية واحدة، تهدف إلى إعادة تكوين السلطة وتعتمد تدرّج الإنجازات عبر المسارات الدستورية.

• أظهرت القدرة على حشد مئات ألوف المشاركين، وتعدد ساحات التظاهر وشمولها كافة المدن الرئيسة، فاستعاد المواطنون المجال العام وتمت محاصرة رموز السلطة السياسية في الفضاء العام والإعلام.

• تجاوزت كل اتهامات التخوين والتشكيك والتهويل بالحرب الأهلية، وانتصرت مطالباتها لتصبح بديهياتٍ، سلم بصحتها كل أطراف السلطة.

• استطاعت عبر فعالياتها المختلفة أن تصوب اتهاماتها إلى كل ملفات فساد السلطة ومكامن الهدر بقطاعاتها.

• فرضت استقالة الحكومة وعطلت جلسات نيابية خصصت لتمرير قوانين ملتبسة الأهداف والغايات، وفككت تحالف أطراف السلطة وأجبرت هذه الأحزاب على تمويه قبضتها على السلطة من خلال حكومة مستشارين لأحزابها، نالت ثقة نيابية هزيلة بعملية قيصرية.

• يبقى الإنجاز الأهم لهذه الثورة هو الوعي الحديث لقيم المواطنة والدولة المدنية وتكريس هوية وطنية لبنانية واحدة وإعلاء حقوق الإنسان الفرد في الصحة والتعليم والعمل والخدمات العامة، والالتزام بمسارات يومية للمساءلة والمتابعة. الثورة هي هنا في هذا الوعي الجديد وفي شبكة الناشطين الذين تعارفوا وتآلفوا وتشاركوا.

7. الثورة والتحديات

التحدي الأول والأساسي هو استدامة الثورة واستكمال مسيرتها، وذلك بالحفاظ على هذا الوعي وتعميم مفاهيمه في مجالات الثقافة والسياسة والإعلام، كما بتوسيع شبكة الناشطين وتمتين صلات التواصل والحوار والتفاعل بين مجموعاتها، والحرص على خلق ديناميات ايجابية تتيح توسيع المشاركة لقطاعات وفئات جديدة في فعاليات الثورة وأنشطتها.

أما التحدي الثاني فهو القدرة على بناء النواة الأولى لسلطة بديلة للسلطة القائمة وذلك عبر استنباط الأدوات الثورية اللازمة لذلك ويمكن أن يتم اعتماد ثلاثة محاور للعمل متناسقة ومتكاملة:

• الاستمرار بمواجهة الحكومة والتصدي للمجلس النيابي والضغط عليهما من أجل السير بثلاثة أهداف متكاملة؛

أولها انتخابات نيابية مبكرة عبر قانون انتخاب مناسب (يمكن أن يكون قانون لجنة فؤاد بطرس مثلاً).

وثانيها إقرار قوانين محاربة الفساد والإثراء غير المشروع، وإصدار مراسيمها التطبيقية.

وثالثها إقرار قانون السلطة القضائية المستقلة نصّاً وهيكليات وموارد بشرية.

• انشاءForum الثورة كمساحة لقاء وحوار وتفاعل ومشاركة، والتركيز على مشاركة المجموعات كافة في فعالياته وصناعة أجنداته وطروحاته، مع الحرص على إشراك نقابتي المحامين والمهندسين ونادي القضاة والجامعات الأساسية في نشاطاته إضافة طبعاً إلى مجموعات الحراك في مختلف الساحات. وتشكيل لجان تنسيق أفقية تربط ساحات الثورة وتنسق فعالياتها، إضافة إلى لجان اختصاص تقيم "ورش عمل" تتابع ملفات محددة وتصوغ حلولاً لها.

أما التحدي الثالث فهو حل مشكلة العلاقة مع الجيش والأجهزة الأمنية، بحيث تمتنع عن أن تكون في صف السلطة لمواجهة الثورة، واستعادة القضاء لدوره في تنفيذ القانون وحماية الحقوق المندرجة في الدستور، وتكون إجراءاته نابعة من نصوص القانون لا من تعليمات السلطة، ويكون ذلك عبر:

• التواصل مع الجيش والقوى الأمنية والنيابات العامة القضائية، لتحميلها مسؤولية الانحياز إلى السلطة الفاشلة والفاسدة وتحذيرها من ممارسة العنف في وجه الفعاليات السلمية للثورة وتحييدها من موقع أن تكون أداة طيعة في يد السلطة.

• حض القضاء على أن يرفع فعالية دوره في ملاحقة الفاسدين وإخضاعهم للقانون، بدل التغاضي عن إحقاق العدالة ومحاربة الفساد.

• ايلاء نقابة المحامين ونادي القضاة، دوراً رئيساً في صون الحريات العامة والحفاظ على حرية التعبير والتجمع والتظاهر، كما في التدخل في صياغة القوانين وتعديلها، وتصويب أداء الأجهزة الأمنية وسلامة إجراءات النيابات العامة.

8. الثورة والانتظارات

تختلط في أزمة لبنان الراهنة معضلة التصدي لست (٦) أزمات استحقت جميعها في جدول الأعمال الوطني:

١) التغيير السياسي بإرساء عقد اجتماعي جديد عبر قيام دولة مدنية حديثة، وإسقاط فئة من الحكام ثبت فشلها وفسادها وارتهانها للخارج.

٢) إعادة بناء الإدارة العامة والأجهزة الأمنية والرقابية على أساس الكفاءة والعلم والإنتاجية والمهنية والحيادية، وصولاً إلى الحكومة الإلكترونية.

٣) بناء السلطة القضائية المستقلة وتحديث القوانين وقيام آليات فعالة للمساءلة والمحاسبة، وتفعيل أجهزة الرقابة والتفتيش، وتطبيق القوانين المرعية الإجراء، واستعادة الأموال والأملاك العامة المنهوبة.

٤) حل الأزمة المالية العامة وعجز الموازنة وإعادة جدولة الدين العام وإطفاء ٨٠% منه عبر اقتطاع جزء من فوائد كبار المودعين على مدى السنوات العشر الماضية، والحفاظ على القدرة الشرائية لأجور اللبنانيين.

٥) إعادة بناء اقتصاد منتج وحديث في القطاعات الأساسية ويتطلع في المدى المتوسط، إلى الاعتماد على اقتصاد المعرفة والاستثمار في البحث العلمي والقطاعات ذات القيمة المضافة العالية.

٦) التزام سياسة النأي بالنفس والعودة للالتزام بإعلان بعبدا، وانسحاب حزب الله من ساحات المواجهة الاقليمية، وتنفيذ قرارات مؤتمرات الحوار الوطني وصولاً لإمساك الدولة اللبنانية بقرار السلم الحرب في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية والالتزام بقرارات الشرعية الدولية كافة، وتحسين علاقات لبنان العربية والدولية.

٧) إجراء إصلاحات هيكلية واقتصادية، في المدى القريب، لرفع إنتاجية وكفاءة مرافق الدولة ومؤسساتها العامة وذلك عبر:

أ ـ إعادة النظر بالنظام المصرفي بعد جدولة ديون لبنان وإعادة رسملة المصارف وتقليص عددها، وتحميل اصحاب الودائع الكبيرة والبنوك تسديد ٦٠مليار دولار من الدين العام؛ من خلال استرجاع رساميل البنوك وأموالها الخاصة؛ ٢٥ ملياراً+ إعادة احتساب الفوائد بمفعول رجعي حتى عشر سنوات على قاعدة (فائدة لايبر= 2.75+ 2%) ويمكن تحصيل أكثر من ٣٥ مليار دولار.

ب ـ إعداد موازنة تخفض خدمة الفوائد إلى اقل من ٣% من سندات الدين وتخفض عجزها إلى ما دون ٥% من الناتج الوطني الاجمالي، وحل مشكلة الكهرباء وزيادة سعر الـKw ليعادل سعر الكلفة، وتشركتها مع القطاع الخاص.

ج ـ تغيير عقود الخليوي وتشركتها مع القطاع الخاص، وإعطاء رخصة ثالثة لشبكة جديدة، وبيع الـMEA والكازينو وكل موجودات شركة إنترا،

د ـ استرجاع قطاع النفط من الشركات لأنه رابح، وإنشاء مصفاة نفط في طرابلس واستجرار النفط العراقي.

هـ ـ تشغيل مطار رينيه معوض بطريقة ( public–private partnership = ppp ) مع شركات صينية اضافة لمنطقة حرة في مرفأ طرابلس بالاتفاق مع دولة الامارات المتحدة، وحل مشكلة مرفأ بيروت واسترجاعه للدولة.

و ـ التشدد في استرجاع الأملاك البحرية والنهرية والبلدية وتحصيل رسومها وهدم أجزاء منها ليصبح البحر مفتوحاً لكل الناس، واستيفاء رسوم وعائدات المقالع والكسارات بمفعول رجعي وإجبار أصحابها على معالجة نتائج جرائمهم البيئية.

ز ـ إعادة النظر بحجم القطاع العام ووضع خطة لرفع كفاءته وإنتاجيته وتقليص حجمه، وفتح المجال لإعادة تأهيل الفائض فيه والذهاب إلى مكننة شاملة وصولاً إلى الحكومة الإلكترونية.

ح ـ إعادة النظر في حجم القوى العسكرية وتقليص ملاك الرتب العالية (العمداء) في الجيش والأجهزة الأمنية والجمارك.

ط ـ حل شرطة مجلس النواب وإقفال مجلس الجنوب وصندوق المهجرين وهيئة الإغاثة، واستبدال "مجلس الإنماء والإعمار" بوزارة للتصميم والتخطيط، وإعادة تنظيم مصالح المياه والمستشفيات الحكومية، لتصبح مؤسسات رابحة ومنتجة، وعدم دفع رواتب العاملين فيها في حالة تسجيل خسائر في ميزانيتها.

ي ـ ضبط معابر التهريب، وإصلاح الجمارك اللبنانية وضبط أدائها، واعادة هيكلة الريجي وإصلاحها واستعادة مواردها.

خاتمة

خلاصة الأمر أن الثورة لا يقاس نجاحها بالحشد الشعبي والمشهدية الجماهيرية فحسب، لأن هذا الأمر هو حاجة إعلامية وتعبوية، لكي يصل الحراك الشعبي إلى مرتبة الاستفتاء على الخيارات الوطنية، وقد أنجزت الثورة هذا الاستفتاء وربحت نتائجه، ولا ضرورة لتكرار الاستفتاء بشكل دوري بعد أن اعترفت أطراف السلطة مجبرة بأحقية المطالب ووطنيتها، ما هو مطلوب بعد هذا الاستفتاء بلورة ديناميتين إيجابيتين؛ الأولى:

* أرضية سياسية تتيح جردة مكامن الأزمة وخطوط الصراع القائم حولها والاتفاق على قواسم مشتركة وتحديد أجندة مطالب وأهداف موحدة وآليات تحرك وفعاليات متناسقة متكاملة.

* الدينامية الثانية هي قيام Forum الثورة وهي مساحة تفاعل وحوار تشبيك بين المجموعات من أجل التنسيق والتواصل بين ساحات المناطق وبين مجموعات الناشطين، بما يحفظ ويطور القيم الوطنية للثورة، ويديم سيادة هذه القيم في وعي الشعب وأجياله الجديدة، ومتابعة الفعاليات الدورية للمجموعات لتنفيذ كل أهداف الثورة ومطالبها وإسقاط منظومة السلطة الفاسدة، وإقامة سلطة بديلة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم