الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

افتتاح باهت لمهرجان برلين 70: التغيير من أجل التغيير؟

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
افتتاح باهت لمهرجان برلين 70: التغيير من أجل التغيير؟
افتتاح باهت لمهرجان برلين 70: التغيير من أجل التغيير؟
A+ A-

الأشياء بدت مختلفة مساء الخميس في أرجاء قصر البرليناله الواقع في ساحة بوتسدامر: محطة المترو التي أقفلت بعدما اعتدنا الخروج منها، المركز التجاري الذي جلسنا فيه لسنوات أقفل ايضاً، بعض الصالات التي حذت حذو المركز، حفل العشاء الرسمي الذي انتقل من شارع إلى شارع. هذا كله كان ملحوظاً بوضوح تام منذ اليوم الأول لانطلاق الدورة السبعين لمهرجان برلين السينمائي (٢٠ شباط/ ١ آذار). وكأنها لعنة ديتر كوسليك الذي غادر الادارة ليسلّم المقاليد إلى كلٍّ من كارلو شاتريان (مديراً فنياً) ومارييت ريسنبيك (الادارة العامة). كوسليك الذي هيمن على التظاهرة السينمائية الأضخم في ألمانيا طوال نحو عقدين من الزمن، حافظ على استقرارها لسنوات، ليس من دون هجوم شرس وُجِّه ضده في السنوات الأخيرة. استقطب الرجل عدداً كبيراً من النجوم والأفلام المهمة والقامات الأوروبية الكبيرة، جاعلاً من البرليناله أحياناً منصّة لإطلاق المواقف السياسية. وهناك، منذ الآن، مَن بدأ يفتقده!

المشهد كان أبوكاليبتياً بحقّ. هذا ما عدا التفاصيل المتعلقة بالبرمجة: اضافة من هنا وحذف من هناك… وكأن "التغيير من أجل التغيير" هو شعار المرحلة.

مقابل حزمة التغييرات المرتقبة، لا يوجد أي نية عند القائمين على المهرجان في جعل هذا الحدث السنوي أقل تسييساً. فالبرليناله لا يزال من المهرجانات الأوروبية النادرة التي تعطي الكلمة لمسؤولين سياسيين ليلة الافتتاح، متيحةً لهم القاء خطب طويلة مشحونة بالنيات الحسنة. وبما ان الدورة تحمل الرقم ٧٠، فهذا يفتح المجال للمزيد من اعلان المواقف والسرديات الايديولوجية التي تضع تاريخ المهرجان في قلبها. فمَن لا يفهم الألمانية، ولم يحرص على وضع سمّاعات الترجمة الفورية على اذنيه مساء الخميس خلال الافتتاح، أغلب الظن انه سمع جيداً أسماء مثل هتلر وألفرد باور، مؤسس المهرجان الذي كانت تُمنح جائزة باسمه قبل ان تُلغى هذا العام بسبب فضح جريدة ألمانية قضية تورطه في النازية. فكلّ شيء هنا في المهرجان، مرتع اليسار الألماني، عرضة للتجاذب السياسي، من قضية اللاجئين إلى فتح صفحات قديمة من التاريخ الألماني المعاصر.

التوصيف بأن المهرجان سياسي، دقيق وليس دقيقاً كان يقول كوسليك في احدى مقابلاتنا معه. تأسّس البرليناله خلال الحرب الباردة العام ١٩٥١، وهذا الادعاء أنه مهرجان سياسي يتأتى من كون برلين كانت دائماً عاصمة للسياسة، وخصوصاً في كلّ ما يختصّ بالعلاقات بين الغرب والشرق. بحسب كوسليك "أحد المبادئ التأسيسية لهذا المهرجان هو خلق تفاهم بين البشر. قبول الآخر والتسامح ركيزتان هنا. يا للأسف، هذا الكلام اليوم يُصنَّف في إطار السياسة. ما إن تنطق بإحدى تلك المفردات، حتى تُتهَّم بالتدليس السياسي. هذه أمور يجب أن تكون طبيعية في عالمنا، لكن عالمنا ليس في وضع جيد. بهذا المعنى، نعم، نحن مهرجان أكثر ميلاً للسياسة مما هي حال المهرجانات الأخرى".


يجب التأكيد ان الأجواء المهيمنة على البلاد، لم تساعد لاجراء افتتاح "مسالم"، منفصل عن مجمل ما يحدث على أرض الواقع، إلى درجة انه فرض نفسه فرضاً. نتيجة ذلك، تم الوقوف دقيقة صمت تكريماً لضحايا الاعتداء الإرهابي الذي وقع قبل ساعات من الافتتاح في مدينة هاناو (ولاية هيسن) غرب البلاد. استغل المخرج الكندي فيليب فالاردو، صاحب فيلم الافتتاح "عامي مع سالينجر"، ليبدي تضامنه مع الشعب الألماني قائلاً ان فيلمه يجلب ضوءاً صغيراً في زمن الاضطراب.

وكانت الصحافة شاهدت فيلم الافتتاح هذا قبيل عرضه الرسمي بساعات. أقل ما يقال انه لا يليق بافتتاح مهرجان من مكانة برلين. ليس لأنه لا تتوافر فيه عناصر الجذب، من نجوم وموضوع وضخامة مشروع، ولكن لأنه يجسّد كلّ ما هو وسط سينمائياً. لا نستطيع ان نطلق عليه لا صفة الجودة ولا صفة السوء. هو في مكان ما بين كلتا الصفتين، هناك حيث الكثير من الأفلام تبدأ وتنتهي. نوع العمل السينمائي الذي تنساه في اللحظة التي تضع فيها قدمك خارج الصالة. حتى المخرج بدا انه لم يصدّق ان فيلمه اختير للافتتاح. أحد الصحافيين نقل ما يأتي عنه: أنجزتُ فيلماً متواضعاً من دون ان أطمح إلى الوصول لمرتبة "كونغوراما" و"السيد لزهر". يصعب التصديق ان فالاردو ذكر فيلمين من أفلامه كشيء يجب الامتثال به. هاكم مخرجاً يعترف انه لم يرتقِ إلى نفسه، وهي أصلاً، ليست ذات شأن كبير.

بعيداً من أي جدل أو مهاترة يمكن ان يحدثهما خيار كهذا في مهرجان صفّ أول يدّعي أنه يجمع زبدة الأفلام، يمكن التوقف عند نقاط عدة أبرزها الموسيقى والتمثيل في عمل فالاردو. الفيلم مسرحه نيويورك التسعينات (صُوِّر في مونتريال)، وهو عن سيرة جوانّا راكوف (مارغريت كوالي). نشهد دخولها إلى مكاتب ج. د. سالينجر الأدبية التي تديرها سيدة صارمة في منتهى الجدية والوضوح (سيغورني ويفر). تفوز جوانّا بوظيفة السكرتيرة المساعدة لها، عليها ان تطالع رسائل القراء التي تصل إلى سالينجر وترد عليهم، وتقوم بأعمال كثيرة لمصلحة الكاتب الذي كان يعيش كناسك بعيداً من الأنظار. في موازاة ذلك، تعيش مارغريت قصهها الصغيرة، علاقات وانفصال، وتحاول ايجاد مكان لها داخل وسط ثقافي يتميز بالطبقية.

رواية سالينجر، "الحارس في حقل الشوفان"، لطالما ألهبت قلوب المراهقين. عبّر فيها عن هواجسهم. آلاف الرسائل كانت تصله من المعجبين والمعجبات، لكن الكاتب كان قرر عدم الرد عليهم منذ أكثر من ٤٠ سنة، وكان يكلف شخصا آخر لهذه المهمة، مستخدماً نماذج عدة لردود جاهزة.

الفيلم ليس عن سالينجر، ولا ينشغل به كثيراً. لنتفق على هذه النقطة. هذا فيلم عن فتاة في الخامسة والعشرين طموحها الكتابة، وطيف سالينجر الملقى عليها سيكون ذا مردود كبير. هناك متعة معينة في اقتحام بيئة الكاتب. هو غائب عنها تماماً لكنه حاضر في أدق تفاصيلها. المتعة الأخرى تتمثّل في رؤية زمن آيل إلى السقوط، مع كلّ ما يمثّله في الوجدان الأدبي. التكنولوجيا الحديثة، أكانت رسائل الكترونية أم كومبيوترات، تجعل الطباعة على الدكتيلو والمراسلة التقليدية أشياء تنتمي إلى الماضي، رغم اصرار مديرة المكتب على الحفاظ عليها. وسط هذا كله، تمثّل الوافدة الجديدة مارغريت، دمّاً جديداً. ستدخل بعض الروح إلى مكان، نام فيه الزمن إلى الأبد. مكان يحرسه ناس يكبرونها سنّاً وتجربة وخبرةً ومهمتم الوحيدة هي صون ارث الكاتب الذي لم يقدّم أي جديد منذ ٣٠ عاماً. الميزات النادرة التي يملكها الفيلم تخرج من هذه النقطة تحديداً: الكونتراست بين عالم على وشك الانهيار، بقيمه ورموزه ونظرته الجامدة إلى الأشياء، وعالم لم يولد بعد كلياً. وفي هذا يشبه الفيلم ما يحل بالمهرجان حالياً، بعد تسليم السبعيني كوسليك الدفة إلى الأربعيني شاتريان.

بالرغم من ان مارغريت تجسّد الوجه المضيء والواعد لهذه البيئة، والبقية ليسوا سوى ماضٍ وأفكار متصلّبة، فإن الشخصيات التي يقدّمها الفيلم لديها ما يكفي من الثقة في ذاتها لنتعلّق بها حتى لو لم نحبّها ولم نؤيدها. هذه حال سيغورني ويفر على سبيل المثل. هي شخصية "سلبية" في تعاطيها وسلوكياتها اليومية، ولكن يتبين مع الوقت ان مارغريت مفتاحها.

في المقابل، لا نجد أي شيء شخصي في الفيلم، بالرغم من تصريحات المخرج التي تقول العكس. ان يتماهى مع شخصية مارغريت، فهذا لا يجعل الفيلم ذا طابع شخصي. لم نرَ الا عملاً تنفيذياً يتراوح بين الجيد والمتوسط. إيقاع يحافظ على تماسكه أحياناً وتعاقب المَشاهد، قبل ان ينكمش في أحايين أخرى. بالتأكيد، هناك لحظات جميلة، هنا وهناك، لكن مجمل العمل يبقى باهتاً، على غرار الطعام الصحي الذي تم تقديمه في سهرة الافتتاح. هذا فيلم يقول ما لديه ثم يضب أشياءه ويمضي، من دون ان يصمد في الذاكرة. وأكاد أجزم ان أحداً لن يتذكّره في نهاية المهرجان.

الأيام القادمة ستتيح لنا اكتشاف المسابقة بأفلامها الـ١٨ التي يترأس لجنة تحكيمها الممثّل جيريمي أيرونز، وكذلك الأعمال المعروضة في أقسام البرليناله. هناك هذا العام تحت إدارة شاتريان، عدد من السينمائيين الذين لا يسدّون جوع السينيفيليين، لكن الرهان عليهم قد يكون في محله اذا ما قدّموه على مستوى عال فعلاً. أكثر من نصف عدد المخرجين المشاركين في المسابقة ليسوا بعد من أصحاب الدهشة السينمائية. في المقابل، ان ساحة مارلن ديتريتش على موعد في الأيام المقبلة مع أسماء مثل فيليب غاريل وتساي مينغ ليانغ وأبيل فيرارا وهونغ سانغ سو. لننتظر ماذا ستحمل لنا هذه الدورة التي انطلقت من دون حماسة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم