الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

"قيامة البتول الأخيرة" لزياد كمال حمّامي: استشراف ما بعد واقع الخراب

أحمد الشيخاوي
"قيامة البتول الأخيرة" لزياد كمال حمّامي: استشراف ما بعد واقع الخراب
"قيامة البتول الأخيرة" لزياد كمال حمّامي: استشراف ما بعد واقع الخراب
A+ A-

تنتهج رواية "قيامة البتول الأخيرة" لمؤلفها زياد كمال حمّامي، الصادرة عن نون 4 للنشر والطباعة والتوزيع، طبعة 2018، المنشية القديمة، حلب، تنتهج خطاباً عجائبياً في تناول أحداث وتفاصيل راهن الحرب، علماً أن معماريتها جليلة المعالم، والملامح المنسوجة من مشاهد موغلة في الواقعية، وأعمق غوصاً في الحالات والصور الشاذة.

إنّها أولاً وقبل أي شيء، دعوة إلى ترتيب الوطن وتشييده من جديد، وتحريض على الانخراط في ثقافة إنسانية تلملم المتبقي، في ما يشبه الفلتة الحالمة، المتشبّعة بتعاليم البرزخي، أو الضرب الذي يعادل تخليق الغائيّة وشتى مناحي الإيجابية الوجودية، من وراء فصول تمجيد تاريخانية الخراب.

لأنه وفي جميع الأحوال، يجب الاعتقاد بهذه الشخصية الحاضرة/الغائبة، الواقعية/الخرافية، المكنّاة "بتولا" دلالة على السمو الروحي وصوفيته، والتي من خلالها، وضمنياً، يتقمص أدوار البطولة، بدرجة أولى، عبد السلام، مما يبلور النسق الأوحد والأقدر على بعث مشاتل النضارة والجمال، وإعادة الروح إلى وطن نخرته الدموية والفوضوية والاضطرابات.

من خلال عتبة الرواية، والتي يمكن اعتبارها نصّاً موازياً، للمنجز، تتضح قوة هذه السردية المنذورة لنزيف إنساني حادّ، دشّن مثل هذه الصرخة الصادقة، مبطّنة بدوال فلسفة التغيير، والانتباه إلى عناصر الحياة المغيّبة، والغائرة في هوية مشتتة وذاتية يكاد يطمسها الخدر وتلغيها الغيبوبة.

من أجواء الرواية نقتبس للسارد قوله:

يؤلمه رأسُه، يشاطره عقله الباطني المضطرب، تلك الحالات المزعجة من القلق والأرق والإبداع:

- "هناك شيء ما قد ضاع منّي"، يقول ذلك في سرّه، ويردف بصمت:

- "وربما سيضيع كل شيء ..."

يُمسك بالإزميل مرّة أخرى، وعندما يحاول أن يبدأ النحت في الكتلة الصمّاء، من جديد، يرتجّ كل شيء في هذا المكان الصغير، ثمة انفجار جديد، أشبه ما يكون بزلزال عنيف، يهز أركان المدينة العتيقة، وسراديبها السريّة، يتساءل: "لا بد أن الانفجار قريب من هنا، آآآه.. ما هذه الحرب المؤلمة؟"، طرف يقول إنها ثورة، والطرف الآخر يصفها بالأزمة والفتنة، وطرف ثالث يعتنقها جهاداً، وآخر يعدّها احتلالاً، وأطراف أخرى تؤكد أنها فوضى".

{يشعر عبد السلام أن نبضات قلبه تكاد تنفجر، يمسّد صدره، وقد ارتفعت درجات ضغطه عالياً، يجلس بين ضوء الشمعة الخافت، وقهره، على كرسي خشبي دائري بلا مساند للظهر، يحاول أن يتوازن قليلاً، يسمع صوت انفجارات متتالية أخرى.} (1).

إنها نموذجية للكائن المسالم المتصالح مع سائر ما يمثل امتداداً، وتكملة له، شخصية من الهشاشة بمكان، كي تؤثر لغة التعايش والسلم، وتحليل تبعات الخراب وعناوينه وأسبابه ودوافعه الواهية والمتسرّعة، على حالات متباينة ومتناقضة، وأسماء عنصرية وطبقية، تحكمها دوغمائية الرأي، في افتقار تام إلى روح الإنسانية التي يتمتّع بها فنان من طينة عبد السلام، كشخصية مثالية، ولو أنها من العالم السفلي، الدوني، الذي تضرب أفكاره عرض الحائط، ولا يتم دعمه على النحو الذي يتيح له أفقاً للأريحية في اقتراح صياغات عاقلة لنجاة البلاد والكائن وتخليصهما من اللعنة الإيديولوجية المتسببة بكامل هذه الانكسارات والدمار. إنّه، بالتالي نسق سردي، محمول على حسّ إنساني جارف، مختنق ومقموع في الآن ذاته، تتشبع به شخصية محايدة تماماً، كعبد السلام.

يقول أيضاً: "أحسَّ  عبد السلام ولبرهة وجيزة، أن سكاكين الغدر قد اغتالت روحه، تلك التي كانت تعيش ضمن دائرة من الخداع المبرمَج، مسلوبة، مضطهدة، وهو يعرف، مثل كل المتابعين، أن تلك الأمسية انفضّت بالتراضي، والمصالحة الوطنية، والقبلات الحارة "بوسات الشوارب"، كما يقال، ولكن في اليوم التالي، اعتقل بعض الحضور المشاغبين، أصحاب الألسن الطويلة، الإرهابيين، المدسوسين، الخونة؟".

لم أعرف كيف أحبّ الحياة، وإذا كان في لوحاتي ومنحوتاتي ألهو، أو أظن نفسي مشروع فنان عظيم، فإني دمّرت أحلى أيام شبابي، حتّى حبي الأول، لا يخلو من المغامرة والألم.

بصق عبد السلام بقرف من تلك الصفقات السرية التي تجعل المدينة تغطّ في ظلام كئيب، كأنه، في الوقت نفسه، يبصق في وجه الفاسدين المتنفّذين، أولائك الذين يخطّطون في الغرف المغلقة، وربما يكونون مجرد أدوات لتنظيمات سرية، أو شبكات "مافيا" محلية، دولية، ولا أحد يعرف بأسرارهم الدّفينة إلا من هو مثلهم، ويشاركونهم في كل تلك الصفقات المشبوهة.](2).

من هنا، نجد الرواية، وإن أسرفت في معجم اقتناص الحالات النشاز، وصور الشذوذ المجتمعي والإيديولوجي، عبر تعرية عوالم قمع الأنثوي واغتصاب الموتى وتبني المعتقدات الوثنية والماسونية إلخ...

فالمنجز يتماهى مع تيار استشرافي، ويرعى خرائطية تستنطق الكائن والعالم، كما يفجر زخماً من الأسئلة المنتصرة للإنساني، مثلما تنصف لهويّته المشوّهة والناقصة، أسئلة وجودية من قبيل: لماذا لا يستثمر الكائن مكامن الفنّ فيه والوازع الجمالي لإتمام رسالة التغيير، بحيث ينطلق من مركزية إلى عالمية، تتجاوز الهيمنة الألسنية والعقدية والعرقية والسياسية، لتذوب أخيراً  هذه المتناقضات في كأس واحد للتحابّ والتعايش البشري والسلم العالمي...؟

إنّ الضمني لهذه الرواية، يقول: دعوا الفنّ  يرسم عالماً جديداً، يجبّ واقع الجنائزية والدمار. إنّها قيامة مقابل أخرى، نار الغطرسة والجهل الإيديولوجي ليس يطفئها سوى الفنّ أو النور المعطّل والمنوّم في الكائن.

هامش:

(1)مقتطف من فصل الرواية الأول، صفحة 12.

(2)مقتطف من فصل الرواية الرابع والأخير، صفحة 240.

شاعر وناقد مغربي.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم