الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

كلام الصورة

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
كلام الصورة
كلام الصورة
A+ A-

أضع تحت ناظري، صورة رئيس الحكومة وحيدًا أعزل في القاعة العامّة لمجلس النوّاب، فلا أرى الرئيس ولا القاعة، بل ما يتجلّى من مأساة العدم اللبنانيّة.

أقول العدم، وأقصد ما آلت إليه هذه الجمهوريّة اللبنانيّة على أيدي زبانيّة طبقتها السياسيّة.

العدم. العدم. العدم.

لا أقصد العدم باعتباره فلسفةً نيهيليّةً وأنتي وجوديّة، بل باعتباره حقيقةَ عيشٍ في بلاد الخراب اللبنانيّ الأقصى.

أنظر إلى الصورة فلا أرى الصورة، ولا بَطَلَها المتهدّم الراضي بصورة مرآته. بل صلف القَتَلة والسرّاق. بل برودة أعصاب المجرمين ورباطة جأشهم. بل حنكة التفكّك والانحلال. بل رائحة المقبرة الوطنيّة الجمعاء. بل وقاحة مَن لا يريدون أنْ يعترفوا باستبداد الموت في كينونة هذا النظام السياسيّ اللبنانيّ. بل أرى خبرة كلّ شيءٍ في لبنان، وقد انتهى في اللاشيء.

أنظر إلى الصورة فلا أرى الصورة، بل لبنان وقد صار أثرًا بعد عين، على أيدي جموع طبقته السياسيّة، وأهل الحكم فيه.

تستولي الصورة هذه، على بصر العقل، وعلى البصيرة.

أنظر إلى الصورة هذه، فأراني أرى الخراب فقط ماثلًا في طيّات الصورة وأعماقها.

إنّي، أيّها الناس، لا أرى إلّا خراب الروح مرئيًّا بوقائع الفجيعة اللبنانيّة وحكمة حقيقتها الصافعة.

ولأنّي لا أعثر على عشبةٍ خضراء وسط الركام الرسميّ اللبنانيّ الأعمى، فإنّي أكنّي عن خراب الروح بخراب لبنان.

يا ربّ. يا ربّ. يا ربّ.

لو كان لخراب الروح صورةٌ، لكان ينبغي لي أنْ أختصر الخراب بهذه الصورة الملتقَطة من صقيع برّاد الموتى في القاعة العامّة لمجلس النوّاب اللبنانيّ.

هذا هو خراب الروح، أيّها الناس، ملتقَطًا من صقيع برّاد الموتى.

هذا الخراب يستولي على منطق الصورة، أيّها الناس. وأقصد، لا خراب التفاصيل الآفلة العابرة المندثرة، بل خراب لبنان.

إنّي أقصد خراب لبنان، الذي يُدمي عقلي، ويبكّي حبري، ويستنزف روحي، ويخرّب جسدي.

إنّي أقصد خراب لبنان، وخراب جمهوريّته، وخراب دستوره، وخراب كينونته، وخراب وجوده، وخراب عهده، الذي لم يبق منه إلّا منطق الصورة.

وإذ أرى ذلك الأسى الذي يثيره عبور العدم في محراب لبنان، أجدني مدعوًّا، ومع كلّ الأحرار، إلى مرافقة الجنازة الكارثيّة، إلى حيث يُهال التراب، وتُبنى الضرائح، وتُقام الشواهد التي تحمل أسماء أصحاب القبور.

ليس الرجل الماثل في الصورة، هو مَن أصوّب عليه، ولا هو مَن يؤلم كياني.

بل معنى الصورة.

كان في مقدور رجل الصورة، على كلّ حال، أنْ يواصل الإقامة في ظهرانيه. في رحيق أفكاره. في جامعته. وتحت بصيرة عقله.

كان في مقدور رجل الصورة أنْ يربأ بنفسه. أنْ يترفّع. أنْ ينجو. هذا شأنه.

لكنّه شاء أنْ يكون بطل الصورة. وهي كنايةٌ عن الخراب الروحي.

بل كنايةٌ عن العدم اللبنانيّ الأقصى.

يعزّ عليَّ أنْ أنعى لبنان الذي ترمز إليه هذه الصورة الملتقَطة لرئيس الحكومة وحيدًا أعزل في القاعة العامّة لمجلس النوّاب. حيث لا أرى الرئيس ولا القاعة العامّة.

بل أرى الطبقة السياسيّة التي تربض على صدر لبنان.

بل أرى صورةَ ما يتجلّى من سياسة العدم التي انتهجتها الطبقة السياسيّة في حقّ لبنان.

وهذا ما ينبغي أنْ يكتبه الكاتب لكلام الصورة، تحت مأساة العدم التي تنزف من هذه الصورة!

[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم