بوق وقلم

مازن ح. عبّود

قلم أغواه متسلط فوقع. حوّله قصبة. فأضحوا ينفخون فيها أناشيد الموت والتعظيم والتفخيم والهجاء والإطراء. قلم آخر حاول زعيم استئجاره فما أفلح. لا بل هو سقط وما سقط القلم. ربّ قلم غلب ملكاً. قلم اغتيل لكن كلماته لم تجف بل جف حلق الملك. وأثمرت الدماء حبرا يدوي.

القلم صرخة. القلم نغمة. القلم استفاقة حلم بعد استكانة. صوت الناس بيد كاتب. صوت الله بيد تملأ الفراغ، وتقتل الرتابة. قلم يصوّب، وينهر ويصرخ ويزرع البرية أملاً.

من يتسلطون لا تروق لهم الأقلام يا صغيري. يحاولون تدجينها فتصير قصبة ينفخون فيها ألحانهم. هم يفتشون عن أبواق ونحن نفتش عن الحقيقة. القلم إذا ما انتصب في ارض الحقيقة والحب والنور يمسي لمن يجافي الحق كابوساً. القلم صوت. من قال إن صوت يوحنّا خنق في برية الأردن. من قال إنّ صوته لم يقرأ ويسمع بألف شكل وشكل، وألف لون ولون. سمعت يوحنّا وقرأته مراراً. وقرأت عنه كثيراً في التاريخ. فصوته إن خفت حلّ الظلام، وما عاد لنا من قيام.

حزنت لمّا علمت أنّ قلماً استعاره زعيم. فالقلم الذي يقع في تجربة يمسي بوقاً. يخدم حاجة أو نزوة أو مشروع سلطة.

إذا ما استقام قلمك يوماً في صحراء العالم، وسجلّ على أديم الحياة حروفاً صفق لها الناس، فلا تتفاخر. يسقط من يظن بأنه هو من سطّر ومن كتب. يسقط من يؤمن بأنّ من يده وحدها تخرج الشهادة والحكمة والفهم. يقع ولا يعود لكلماته وقع لأنها تأتي من فراغ ومن تملق ومن استعارة.

قيل زماناً يا ولدي أنّ الملحن يصنع اللحن. أما انا فأقول اللحن يصنع المؤلف الموسيقي. الحق يتجسد كلمة. والكلمة تصير مخلوقاً وتعبر الى القلوب. تتحرر الكلمات ممن ولدت منهم. تصير موقفا. تمسي قضية ووجعاً وحكمة ومقولة تطير وتعيش.

كلماتك يا ولدي ابناؤك، ونحن لا نلد للأزقة بل للحياة. كن فخوراً بهم وليفرح من يفرح، وليمتعض من يمتعض. فالحرية ولدتك. وأنت اقترنت بالحقيقة كي تخرج من رحمها كلمات.

اختراع الطباعة كان كرازة وتواصلاً لمن أحبّ الخير. أولاد الكلمة نحن. سرقتنا الشاشة والصورة والتلفاز من أديم الكلمات. وخطفتنا وخطفتكم دهاليز وسائل التواصل الاجتماعي الى حيث لا ندري...

أجيال تخرج من رحم التنين. أجيال تلتهم ما هو ملتبس من معلومات. وتروح تبني على الشيء مقتضاه.

لكن ما هذا الشيء، من ذا الذي ولده، ومن اين وكيف؟

لا نعلم.

ونبني قرارات تأتي على مقاسات من ولد في الوهم ابناً لقيطاً.

لكل عصر قيمه المفضلة. والشفافية أضحت الأكثر طلبا اليوم. فالرمادية تخيف في عصر الشك، وذلك بغض النظر عن النيات والضرورات. تظنّ أحياناً بانك تستطيع ان تهرب بموقفك او بفعلك او اتجاهك، لكنك لن تتمكن من ذلك لأنهم يرصدونك كخيالك. يسهل عليهم تقفي أثرك وضبط كل تحركاتك. صارت الخصوصيات عموميات في عصرنا، تباع وتشترى. وصار لوسائل التواصل جيوش الكترونية ويبقى للحقيقة قلة قليلة لكن عزيزة.

ألا تذكر يا ولدي انّ الخبر فعل. وصناعته امانة. فلا تفصّل ثياباً على مقاسات الظروف واللاعبين فتبطل موضتها. مقاساتك مقاسات الواقعة والحقيقة. فصمم ثياباً تعطي الفعل قوة الواقع.

اصدح بموقفك. فالموقف سلاح. الموقف لون وهوية وطعم. تسلح به وامضِ كي تحارب في سبيل ما تعتبره محقاً في العالم.

انت تصنع موقفك وموقفك يرسمك. قال سقراط يوما: "تكلم حتى اراك".

أضحت الرمادية تهمة وإدانة. تكلّم، فتتجلى. دع موقفك يبان ويرسمك كي لا ترسم كما يرغبون. من غير المسموح ان لا يكون رؤيا ورأي لمن ينظر إليهم كأهل رأي.

نحن في عين الكون موقف. مواقفنا شخصيات. هي تبقى ونحن نزول.

بوّق في بوقك يا بنيّ. واعزف انشودة الحياة في وادي نهر الموت. فيرتوي من يقرأ. بوّق في بوقك انشودة جديدة، فيطرب الغارقون في بحار الاحباط. اكتب للحقيقة والحب والغد كلمات. ازرع دنياك كلمات ومواقف وبطولات وذكريات. الموقف حبّ. الموقف ايمان.

ازرع الأيام شذا كلمات ومواقف وذكريات كي لا تمل ويمل من حولك. الموقف قوة تعطّر اللحظات بسحر البقاء. ولا يستوي ويبقى من المواقف الا ما اخرجته من رحم الحقيقة. لا تبقى الا الرجولة.

اعزف بقلمك على أديم الورق لحناً جديداً. سجّل بقلمك أنك انسان. حبّر بعبق توقك الى الحقيقة. يحتاج العالم الى أقلام صغيرة يا صغيري. فلقد كثرت الابواق، لكن ما انقطعت أقلام المحاربين من اجل غد أفضل.

الأبواق تبوّق للأطماع والمكتسبات والزعامات والقبائل التي تتناحر على الموارد والحصص والمكتسبات.

اما الأقلام فلا. لأنها ترسم عوالم وفسحات. تصحح، وترسم وتشهد.

اسألك ان تكون قلماً. اسألك ان تكون انساناً. اسألك ان يكون قلمك وقفة، وحبرك صلاة وشهادة ورجاء.