"وقاحة هذا المطر الأحمق" أشرف من وقاحة رجال السياسة

مقدّمة لا مفرّ منها:

المقارنة لا تجوز، بين مشاهدة المطر ومشاهدة قناةٍ تلفزيونيّة تبثّ مقابلةً مع سياسيٍّ من أهل الطبقة اللبنانيّة الحاكمة.

لماذا هي لا تجوز؟ لأنّ إفساد الوقت، وإضاعته، من جهة، بمشاهدة هذا النوع الانحطاطيّ من الـ"توك شو" السياسيّ "الأصفر"، جريمةٌ حياتيّةٌ وقيميّةٌ نكراء. وهذا ينطبق على الغالبيّة الساحقة من رجال السياسة عندنا، وعلى الغالبيّة الساحقة من المنصّات الإعلاميّة والمحطّات التلفزيونيّة، اللبنانيّة وسواها. في وقتٍ تُغتال الغالبيّة الساحقة من الشعب اللبنانيّ في كرامتها وشرفها ولقمة خبزها ومصيرها، ويُعتَّم على مآسيها، ويُغَضّ عن توثيق أشكال انتفاضتها البهيّة، خدمةً لأهل السلطة، وحفاظًا على ما تحظى به من فتات موائدها.

ثمّ إنّ المقارنة لا تجوز، من جهةٍ ثانية، لأنّها تنطوي على إهانةٍ فادحة في حقّ المطر؛ إهانة لا يمكن غسلها – عندي - بمال الدنيا، ولا بمناصبها كافّةً.

***

جوهر الموضوع:

المطر لا يؤلمني، ولا يبرّح حياتي، لأنّه صديقي.

لكنّ ما يؤلمني في هذه المسألة، أنّ هامشيّي العالم، مشرّديه، فقراءه، مرضاه، والممعوسين تحت عجلاته، لن يستسيغوا لديَّ، هذا الإفراط في تقريظ المطر، ومغازلته، والتودّد إليه، في غمرة هذه التعاسة الكونيّة الماحقة.

هذا الجانب بالذات، يبكّي قلبي، ويرجّف كلماتي، أنا الذي لا يبكّيني ولا يرجّفني إلّا الحبّ المرذول والمتروك عاريًا في زمهرير الوجود المصقّع، كما في صلافة الصحراء، على السواء.

لا يؤلمني المطر، علمًا أنّه ينخر كياني نخرًا، وينحت مسامّ مثقوبةً في قدميَّ الرطبتين الموحلتين، ويتسرّب إلى نخاعي الشوكيّ، ويجرم لحمي عن عظامي، ويجعلني شلوًا في أنياب الشرط البشريّ الأحمق.

لكنّ المطر لا يؤلمني، لأنّه يفتّح وجودي المُضمَر والمُهمَل والمَنسيّ، ويجعلني "أنتقل" إلى حيث يُفترَض أنْ أعثر على نبوغ جسدي، ولغتي، وإلى حيث يمكنني أنْ أستجمع أنايَ، وأسترشد ببوصلتها غير الخاضعة لترّهات الحواسّ.

قوّةٌ محوِّلةٌ كهذه القوّة، من شأنها أنْ تتخطّى مكوّناتها لتلامس فلسفة ذاتها اللامحدودة المعنى والدلالة. بهذه الملامسة، هي تصنعني من جديد.

لا يهمّني منطق الأشياء، ولا معادلاتها الرياضيّة.

المطر، عندي، قوّةٌ تخرق فاعليّة العقل ومدركاته.

ولأنّه كذلك، هو يضعني أمام الطاولة المطلقة، ويُريني ما لا أرى، ويرتّب الأشلاء المبعثرة جزافًا من كياني، ويجعلني أكثر ولوجًا إلى أعماقي، وأشدّ ارتباطًا بأحوال الأمزجة التي تسيّر هذا الكائن الذي أنا، وتضعه على السكّة المحتملة للعيش.

يحبّني المطر، ولا يُعاديني. أحبّه، وأسلس له قيادي، وأسلّمه طريقي، ليأخذ بي إلى الأماكن المرجوّة من الذكاء اللغويّ والعاطفيّ، فأنغمس فيها كما لو كنتُ أنغمس في غيومٍ تتراكم في عينيَّ، بالحسّ وبالافتراض. بالواقع وبالتخييل.



وقاحة المطر لا توصف، ولا تُحَدّ. هي وقاحةٌ تلامس حدود الجريمة. لكنّي أحبّ هذه الوقاحة، وأتمنّى أنْ يتبلور جسدي بها، ليكون صنوًا لها، وأنْ ترتفع كلماتي لتصل إلى مصافها.

في ما مضى، كنتُ أراقب المطر من مسافة. الآن، أنا ظلاله المبلّلة. بل ظلاله الغرقى المستحبّة.

لا شيء مثل المطر، مثل الماء، يمنحني هذه الموهبة؛ موهبة استذكار لحظة الخروج من الرحم.

فأنا أستذكر تلك اللحظة، ويمكنني أنْ أرويها بتفاصيلها، وأسرد وقائعها، وناسها، وأحوالها، كما لو كنتُ شاهدًا لها.

أنا لا أهلوِس، بل أصف. الفارق الوحيد بين ذلك المولود الرائي، وبين الراوي الذي يروي الآن، أنّي لا أرتجي حياةً خارج هذا الغرق غير القابل للاحتمال.

أصف هذه العلاقة الشخصيّة مع المطر بأنّها حقًّا غير قابلةٍ للاحتمال.

كالحبّ الذي يقتل المُحِبّ، الراضي بقاتله، الغافر له فعلَ القتل، بل المُطالِب به.

سمعتُ إحداهنّ تصف هذه المسألة بأنها شبيهةٌ بأحوال المازوشيّين الذين يستلذّون تعذيب الذات، وخصوصًا إذا مارسه عليهم جلّادوهم.

ضحكتُ مستخفًّا، وقلتُ: معليش.

المرأة القاتلة مطلوبة. مثل هذا المطر القاتل.

أمس، خرجتُ في الليل المجهول إلى الشارع المجهول، لملاقاة هذا المطر القاتل.

كانت الساعة في نحو الحادية عشرة.

كانت تمطر بغزارة، وكان الهواء يعصف، والقلب يرتجف، والعظام تصطكّ.

لكنّي لم آبه. إلّا أنّ الماء السائب على الأسفلت، كما على الرصيف المتهدّم، كان يجعل المشي اللامبالي والآمن شبه مستحيل.

لكنّي لم آبه. فانغمستُ فيه، لا لسببٍ أرعن، ولا لتحقيق غايةٍ مفترضة.

كنتُ آنذاك أحقّق معرفةً مجّانيّةً مطلقة، فأدرك بكياني كلّه، أنّ الحبّ القاتل يشبه هذا المطر القاتل. وهما مرآتايَ المفضّلتان.

قلت: لماذا، والحال هذه، لا أكون منساقًا إلى المشاركة في وليمة هذا المطر القاتل، ومندرجًا فيها، كما لو كنتُ جزءًا من أوركستراها الخالدة؟!

***

خاتمة لا مفرّ منها:

أنا الذي يكره التفسير، أعترف بأنّ المطر لم يكن وحده هو الذريعة، ولا هو السبب الوحيد وراء الخروج.

أعترف، هذا الصباح، بأنّ ثمّة امرأةً، في مكانٍ ما من هذا العالم، كانت تتهيّأ، افتراضيًّا، للانضمام إليَّ، في ذلك المشي الليليّ الغريق والأحمق.

Akl.awit@annahar.com.lb