أنا أنسي الحاج منذ لحظات متُّ وقمتُ متُّ وقمتُ متُّ وقمتُ أنا أنسي الحاج أريد العودة إلى رأسي

أريد رأسي.


لم يكن لأنسي الحاج من مطلبٍ سوى هذا المطلب، وقد كان مشتهاه الوحيد الدائم. وها، الآن، أنا أراه، من حيث هو، مستعيداً رأسه، هارباً به، مكلّلاً بغار أسراره وكلماته، ملغّزاً، شفّافاً، أبيض حرّاً، إلى آخر ما يمكن ان تحمله الحرية من معنىً.
الآن، يستلقي أنسي الحاج على الغيوم، بين النور والظلام، وقد تعانقتْ في صدره الحياةُ وأشباحُها، ومن رأسه إلى رأسه يرتمي، ليصير مكانه في تلك الأحضان الوسيطة، في يد المعجزة. جامعاً المتناقضات، متناقضات الواقع والكلمات معاً، النثر والشعر معاً، محقِّقاً برحيله المزلزِل، ما كان كتبه يوماً: في كلّ مرةٍ رميتُ نفسي من أعلى الجبل ليبتلعني الوادي، كانت الغيوم الوسيطة تستلقيني. العيون، وأنا أزيد الغيوم، هي أحضان المعجزة.
الآن فقط، في مقدور الشعر المطلق أن يتباهى بتجسداته، ومنها أن يكون أنسي الحاج على الغيوم، وبيننا، وأن يصير طعاماً، وبيننا، طعاماً للحبّ، وللعشّاق و... الكلمات، معاً وفي آنٍ واحد.
والآن، أكثر من كلّ كتابٍ، بل أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ها هي وليمتُه تُقام، ويصير سرابُ العارف هذا، شعوباً لامتناهية من العشّاق، بل شعوباً مثلها من الأشعار، مستجاباً ما طلبه في مستهلّ ديوانه الخامس، بنبرة الخاشع المصلّي، لكن الآمِر أيضاً: "ليكن فيَّ جميع الشعراء لأن الوديعة أكبر من يديَّ"!
وإذا كان أنسي الحاج قد قال يوماً "لا تبحثوا عنّي في كلمة، لست في شيء"، فقوله ذاك ليس "صحيحاً".
فقد "وصف" أنسي الحاج أين مرّ، وماذا رأى. ولم يكن في مقدور النفي أن ينفي، بل أن يحسم. وها هو يفعل.
أعرف أن أنسي الحاج لا يعرف "كيف" مرّ، وماذا رأى. أعرف أنه لا يعرف كيف ظلّ يحتمل الشعر، وكيف ظلّ يحتمله هذا الشعر. لكني أعرف أنه مرّ، ورأى. وأنا، بل نحن، نرى أين مرّ، وماذا رأى.
أعرف أن أنسي الحاج ليس وليد جيل بل "أنا الزوايا المختلفة، سلفاً، في ما بعد، من قديم الزمان والمستقبل./ منذ لحظات متّ، وقمت متّ، وقمت متّ، وقمت. أنا جميل".
يستولي الذهول الشعري الماحق، وأنا أسأل: كيف يحتمل هذا الشاعر أين مرّ، وماذا رأى، وهو القائل "حين كنت ولداً/ كنت أسمع كالنائم وأرى/ ولمّا ما زلت ولداً/ تكدّس العالم في عينيّ"؟
أليس هو المستفهم "أيّ جلدٍ يستوعب هذه الروح؟"، هذه الروح التي تستلقي على جروحها وترى، بعيداً بعيداً عالم أحلامها يتحقق تحت سلطتها الوحيدة، أو لا يتحقق...؟
كيف لا أعرف، كيف لا نعرف، وهو القائل: "عشتم عواصفي وما بعدها، وستعيشون معي عواصفكم وهدوءكم. أحيا فيكم دون سلام ولا خطر عليّ. أموت مطمئناً وأقوم مطمئناً".
وأنا، كيف لا أعرف، بل كيف، نحن الشعراء، لا نعرف، وهو الموقّع اسمه أدناه "أنا الموقّع اسمي أدناه/ أسمع المطر ينزل/ جافاً على الاسفلت/ وممّا قلت الآن وقبل الآن/ لن تذكروا كلمة/ لكنّ فمي ارتوى قليلاً/ وهو يروي لمن يريد/ ماضي الأيام الآتية"؟
أليس هو الشاعر الذي كتب لنفسه؟ أليس هو القائل "كتبتُ لنفسي. كلّ كتاب لي هو لشخص واحد. المجد لله الذي أنعم عليّ بهذه القوة"؟
أليس هو الذي وقع على شوك الكلمات، من قلبه وقع كعصفور؟ أليس هو القائل: "وما لا يحدث أحدثتُه فحدث"؟
فكيف يحتمل أنسي الحاج، كيف يحتمل أن يكون الرجل الأمّ، وهو القائل "من كثرة الخبز أطعمت، ومن قطرة الماء غمرت، ومن الألف إلى الياء حملت./ أنا الرجل الأم"؟
والآن، إذ يهرب الشاعر برأسه، إلى حيث يعثر على النوم اللطيف، لَيشرّفنا في "النهار" و"ملحقها"، أن "نردّ" إلى شاعر "لن"، و"الرأس المقطوع"، و"ماضي الأيام الآتية"، و"ماذا صنعتَ بالذهب ماذا فعلت بالوردة"، و"الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"، و"خواتم"، و"كلمات"، أن نردّ إليه، لا رأسه المقطوع، بل رأسه مكلَّلاً بغار أسراره وكلماته، وأن نفسح له المكان، وهو دائماً له.