الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

البنية والدلالة... للخطاب الفكري

المصدر: النهار
د. باسم عثمان كاتب وباحث
البنية والدلالة... للخطاب الفكري
البنية والدلالة... للخطاب الفكري
A+ A-

الخطاب: هو منظومة من الأفكار تشكلت عبر تراكم معرفي نابع من استقراء للواقع بكل مكوناته الثقافية والاجتماعية والسيكولوجية، وتمحورت عبر أنساق أيديولوجية مستمدة من التصورات المنبثقة من التراث أو من الحداثة، التي تختلف في آلياتها ونظمها حسب مستوى النضج الفكري والوعي بمتطلبات المجتمع، ومدى ارتباطها بمستوى الأداء الحركي في عملية التغيير والتنمية والحضور الوجودي.

الفيلسوف توماس كون في كتابه "بنية الثورات العلمية" يقول: "في كل حقبة من حقب التاريخ يكون هناك نموذج وإطار ذهني يفكر من خلاله وبداخله علماء وأشخاص ذلك العصر، هذا الإطار الذهني بمثابة (صندوق) والناس يفسرون الأشياء من خلال هذا الإطار الذهني".

هذه المنظومة الفكرية التي يتحرك الناس من خلالها في تفسيراتهم وخطاباتهم يطلق عليها توماس كون: (البرادايم) أي "النموذج الارشادي" أو" النموذج الإدراكي" أي بمثابة العقل الجمعي والسيكولوجيا الجماعية، ويرى أنه في كل عصر من العصور، هناك "برادايم" وإطار ذهني معين ومن خلال هذا الإطار يفسر الناس كل شيء، ولا يتهاوى هذا الإطار بسهولة وعادة يأخذ وقتاً طويلاً إلى أن يبدأ يختل أمام وجهات نظر أخرى، وهوما أطلق عليه توماس كون "تحول البرادايم" أو تحول "النموذج الإرشادي والإدراكي"، حيث تطرح النخب الثقافية والعلماء بأفكار جديدة مختلفة تماماً عما كان سائداً، وهي ليست مجرد أفكار عابرة، بل تحول حقيقي يغير مسار الفهم العام للأمور والذي ظل سائداً لزمن طويل.

مثال ذلك في العلوم: ما أحدثه آينشتاين في نظريته النسبية بعد أن ظلت قوانين نيوتن حاكمة إلى ما يقارب ٢٠٠ عام، عاش خلالها علماء الفيزياء بتناغم علمي مع قوانينه، حتى وصلوا إلى انسداد في تطبيق بعض النظريات تجريبياً، فقام آينشتاين بطرح سؤال بسيط لكنه خارج البرادايم "النموذج الإرشادي" السائد علمياً في تلك الفترة، وهو: ماذا لو كان الخلل في النظرية الأساس التي على أساسها وضعنا فرضياتنا العلمية وأجرينا على ضوئها تجاربنا؟ ثم خرج بنظريته النسبية إلى العالم دون وجود أي مرجعيات علمية سابقة لها، وأحدث ثورة علمية كبيرة ما زال صداها يتردد إلى يومنا هذا.

مثال آخر في الفكر الأيديولوجي: القرآن الكريم ومجمل الشرائع السماوية حدثتنا بطريقة ما أو بأخرى عن "النموذج الإرشادي" أوالبرادايم حينما أشار إلى حركة الرفض الجماعية لدعوة الأنبياء والرسل في بداياتها من قبل الناس الذين تتم دعوتهم، وكان تعليل رفضهم أنهم يتبعون "النموذج الإرشادي "الذي اتبعه آباءهم وأجدادهم، ويرفضون أي تفكير أو فكرة خارج هذا الإطار الموروث الذي اعتادوا عليه، إلا أن صراع الأفكار والوعي والمنطق والتعاقب والتراكم المعرفي مع التقادم الزمني، استطاع أن يخرج هؤلاء ومن تلاهم من أجيال من الصندوق المغلق والبرادايم الموروث والنموذج الإرشادي للأجداد والآباء، في قوله تعالى: "إنا وجدنا آباؤنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون".

لهذا - يخيل لهم البعض من الناس - أن الأصالة والفكر الأصيل هو الدخول إلى الماضي لنغيب فيه، ونعتبر أن الماضي مؤصل في الشخصية، ومعمق في الوجود، فيجب علينا أن نقدس الماضي، حتى إننا نعتبر الأخطاء مقدسات،

وعلى هذا الأساس، تحدث بعض الناس، عن الفكر الاصيل كما لو كان تركيزا على التخلف؟!، حيث إن الماضي يحتضن الكثير من التخلف في الفكر وحركة الحياة

إننا عندما نتحدث عن الفكر الأصيل وبنية خطاباته، فإننا لن نتحدث عن ماضٍ يحتضنه الزمن فيما يسمى تاريخاً، فقد لا يحمل هذا الماضي في بعض مواقعه وخطوطه شيئاً يتأصل الإنسان به، بل قد يكون شيئاً في السطح وفي الشكل، وقد نجد في الحاضر كثيراً من عناصرالأصالة الفكرية في الخطاب يجد فيها الإنسان نفسه ككائن حي

إذا: القضية ليست انفعالاً ننفعل به، وليست انتماءً طائراً ننتمي إليه، بل هي حياتنا، وفكرنا هو حياتنا، لأن الحياة صورة لكل مفاهيمنا التي تفرض نفسها سلباً أو ايجاباً، تقدماً أو تخلفاً، وذلك من خلال الوجدان الذي نحمله، لذلك، لا يكون الانتماء حالة طارئة في الإنسان، بل هو حالة ثابتة في وجوده، لأنك بما تنتمي تكون.

إذاً، لا بد لنا من أن ننطلق لنفكر أولاً، وليس الفكر الذي ينطلق ليدرس الإنسان في خطوطه العملية في الحياة، أن نفكر وأن يكون الفكر يساوي العقلانية والموضوعية، العقل الذي يقف مستنكراً ليلتقط ملاحظة هنا وأخرى هناك، فكرة هنا وأخرى هناك، ندرس كل انتماءاتنا لنعقلها ولنؤصلها في وجداننا، لأننا قد نكتشف أن كثيراً من انتماءاتنا كانت إرثاً ولم تكن فعلاً!!!، والإرث ليس بالضرورة أن يكون سلباً دائماً، لا بد لنا أن ندرس سلبياته وايجابياته، لأن إرثاً ما تركه لنا آباؤنا قد لا يكون له دور في حساب حياتنا، لأنه إرث من زمن ماض انطلق من تجربة محدودة وتحرك في أفق محدود، لهذا ليس بالضرورة أن نقدس التراث بل علينا دراسته، إنه فكر أناس جربوا وتجربتهم خاضعة للظروف الموضوعية التي كان يمثلها زمنهم، لذلك هم كسبوا فكراً وعلينا أن نكسب فكراً آخر، يخضع للظروف الموضوعية والتي يمثلها زمننا، والبيان الإلهي يقول: "تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم"، لها ما كسبت من فكر خاطئ أو مصيب، ولكم ما كسبتم: لأن لكل جيل كسبه، وليس بالضرورة أن يكون كسب الاجيال السابقة هو كسبنا من مسألة الإرث، وقد نكسب ما كسبوه لأننا اقتنعنا به ولأننا أردنا ذلك، لا.. لأن الآخرين تركوا لنا ذلك.

لذا، نرى أن "البرادايم" وارهاصاته غالباً يمثل النموذج الفكري والقالب الذي يضع الناس أنفسهم فيه، نتيجة سيادة أفكار أو نظريات مدة طويلة من الزمن، تصبح مألوفة ومتعارفة وغالباً ما تتحول إلى مسلمات يتم توارثها عبر الأجيال، وهكذا يتشكل "النموذج الإرشادي" المغلق على مستوى التفكير والسلوك إلى أن نصل إلى مرحلة انسداد فكري يعجز خلاله البرادايم السائد عن حل المعضلات المطروحة او الإجابة على تساؤلات اجتماعية وعلمية، ويفشل هذا النموذج مهما حاولوا تطويره من الداخل، وهنا تحدث الطفرة النوعية والتحول في النموذج الفكري من خلال طرح تساؤلات جديدة خارج البرادايم المألوف، وهو ما يدفع للتفكير ضمن أطر فكرية مغايرة للمألوف والمتعارف عليه، ويصبح في حالة صراع جدلي بين ما هو موجود وما هو جديد، وكأنه معيار تطبيقي للقانون الديالكتيكي: (التراكم الكمي والتحول النوعي)، وفترة هذا الصراع قد تطول وتقصر وفق قدرة النموذج الجديد على إثبات نفسه من جهة، وقابلية المتلقي للنموذج الجديد من جهة أخري، والخروج من البرادايم القديم ليس بكل ما يملكه من علوم وفكر ومعتقدات، بل من كل ما تم عدم إثبات صحته وفاعليته، أو ما أثير حوله شبهات إقصائية، نتيجة التلاقح الفكري والثقافي والمعرفي بين الأمم، أدى إلى اهتزاز النموذج الإرشادي القديم وحصول طفرة نوعية جديدة في وعي المتلقين أدت لاهتزاز البرادايم السائد فكرياً وسلوكياً.

إن القضية في عالم الفكر والانتماء والخطابة، ليست أن يكون لك شيء جديد دائماً، ربما يكون لك فكر الآخرين لكن على أساس أن يتحول ليكون فكرك بعد أن تقتنع به أنت، لا..لأن الآخرين اقتنعوا به، وهكذا هي المسالة في عملية التفاعل "لنفكر معاً" ولا تكون المسألة " فكروا لنا"لأن "فكروا لنا": يلغي وجودنا، ولكن "لنفكر معاً": يمنحنا عمق هذا الوجود المتفاعل مع الوجود.

الخطاب السياسي والبرادايم:

إذا، "البرادايم": نموذج وإطار ذهني يفكر من خلاله وبداخله أشخاص عصره، هذا الإطار الذهني بمثابة صندوق والناس يفسرون الأشياء من خلال هذا الإطار الذهني، ويقع في هذا المأزق البرادايمي عادة كل الخطابات وفي مقدمتها الحزبية والاجتماعية والسياسية، حيث تكون بنية الخطاب من حيث الألفاظ والنظم مولدة لدلالات تخضع في سياقاتها المعرفية "لبرادايم" الحزب وسياسته المعرفية والفكرية، فتكرس معرفياً تحيزات تتناسب ومراد الخطاب.

لذلك نجد هناك خللاً واضحاً وجلياً في الخطابات السياسية الفلسطينية ذات التعبيرات الإيديولوجية الموجه إلى الجمهور من كافة الأطياف السياسية، وذلك لعدم مقدرتها على تشكيل خطاب سياسي جماهيري خارج " النموذج الإرشادي" المألوف وبنيته الإصلاحية في المرحلة الراهنة، وهو ما قد يشكل أزمة ثقة وتعايش وتواصل بين جهة الخطاب السياسي ومكونات المجتمع ومثقفيه وجمهوره، وهذا ما نلمسه في واقع الحال من جملة الاستياء والتنكر لدى الجمهور الفلسطيني من مجموع البيانات والخطابات الموجه إليه كبوادر حل واقعي ومنطقي لأزمته الداخلية وصون قضيته وحقوقه المشروعة.

هذا يعني، أن بناء الخطاب السياسي في الحالة الفلسطينية يتطلب دقة بالغة وعميقة في دلالته وبنيته وأهدافه وروافعه الاستنهاضية، وخاصة القوى اليسارية منها، ليشكل حالة ثورية على الواقع الفلسطيني "المألوف" وخطاباته التقليدية والمهادنة لما هو قائم والتي تكتفي بالنقد الإعلامي الإصلاحي دون التغيير الجذري.

إذاً، يلعب الخطاب وبنيته دوراً بارزاً في صناعة وعي الجمهور المُخاطب وتنشيط الأبعاد التصورية الذهنية لديه، بل أيضاً يساهم في صناعة تصورات جديدة تشكل قاعدة بيانات لصنع معارف وحلول، في حال تكاملت قاعدة البيانات التصورية بالأدلة وشكلت تصديقات ملموسة، حتما سيكون لها دور كبير في توجيه السلوك المجتمعي والجماهيري اجتماعياً وسياسياً.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم