حين سقطت أمّ كلثوم على خشبة المسرح

رامي زيدان

يسع المرء أن يلاحظ أن "الست" أم كلثوم لم تكن على سمت واحد في صورها، ولم تبق داخل إطار صورة المغنية السلطانية الجامدة و"الأيقونية" الواقفة على المسرح بغنائها المتعالي الجبار كأنها فرعون الصوت الذي ينصاع له الجسد والروح. ثمة الكثير من صورها "النادرة" (انتيكا) التي تكسر الإطار السائد وتفككه. صور نادرة مع أن الندرة أصبحت ممجوجة في زمن الـ"فايسبوك" وطوفان الانترنت. صور بين "الباباراتزي" والشعبوي والإجتماعي والحيوي والمرح. كل صورة لها حكايتها أو ذاكراتها الخاصة. إنها صور فاطمة إبرهيم البلتاجي، ابنة قرية طماي الزهراية المصرية الفقيرة، التي أصبحت سيّدة الغناء العربي وكوكبه، وانحفر صوتها في ذاكرة الشعب العربي ووجدانه.


ثمة الكثير من الصور اللافتة والمثيرة التي انتشرت أخيراً لأمّ كلثوم، تبيّن جوانب من حياتها الخاصة التي لم نألفها ولم نعهدها لها. في صورها هذه التي تسمّى "نادرة"، تبدو خارج دائرة الأيقونة التي كرّسها صوتها وعلاقتها بالنظام الناصري وجمهور الراديو والحفلات، وازداد وقع ايقونيتها مع جموح الفنانين التشكيليين في رسمها، والكتاب والكاتبات في تدوين سيرتها ومسارها، إذ جعلوها امرأة وفنانة "اسطورية" تغلب عليها "الخوارق" و"المعجزات" وصار صوتها يوازي "صوت مصر"، بحسب ما ذكرت الاميركية فيرجينيا لويس دانييلسن في كتابها عنها.
صور أم كلثوم خارج الكادر المعروف، تجعلنا نتوقف هنيهات في تأملها، كأننا أمام كائن "مقدس" يكسر التابوات من خلال بعض اللقطات المدججة بالمعاني. صورها هذه تزيد من وهجها وروحية صوتها، على عكس ما يتوهم البعض انها تؤثر سلباً في سلطانها. تبين الصور أن "ثومة" لم تكن مجرد مطربة جامدة لا تقبل المرح. واحدة تظهرها وهي تتراقص وسط مجموعة من السيدات يحملن الدف بسعادة وفرح لمشاركتها لهن الرقص. الصورة الأكثر تعبيراً التي وصفت بـ"الشقاوة"، هي التي يحملها فيها شاب وسيم هو ابن شقيقتها على شاطئ البحر، وقد حصدت الكثير من الإعجاب كونها تظهر جانباً مرحاً من حياة "كوكب الشرق". نراها أيضاً تحمل "نربيش" المياه (خرطوم) وتسقي حديقة منزلها، وفي صورة اخرى نراها مع طفلة ترقص أمامها وتنظر إليها بإعجاب وقد أصبحت الطفلة في ما بعد الفنانة شريهان. احتفلت شريهان بنشر هذه الصورة على طريقتها الخاصة، وهي التقطت أثناء رقصها في حفل زفاف شقيقها الفنان الراحل عمر خورشيد. كتبت تعليقاً على الصورة، قائلة: "كوكب الشرق" سيدة الغناء في مصر والعالم العربي، أم كلثوم تنظر بسعادة للأخت الصغرى لعمر خورشيد ‫شريهان‬‬‬‬، وهي تتراقص على لحن للموسيقار المبدع بليغ حمدي، بناءً على رغبتها. وكانت أم كلثوم أعطت شالها الحرير لشريهان، لتستعين به على الرقص في حفل زفاف شقيقها عمر خرشيد إلى السيدة أمينة السبكي. ختمت شريهان تعليقها بالقول: "يا لها من أيام وذكريات ولحظات مصيرية في عمري، لم أقصدها ولكنها نحتت شريهان".
ثمة لقطات أخرى "نادرة" كثيرة جمعت أم كلثوم بسياسيين في قامة جمال عبد الناصر وأنور السادات والشيخ زايد الذي قدم إليها هدية ثمينة، وأدباء أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وفنانين مثل محمد عبد الوهاب وفيروز وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ والقصبجي، كانت هي على قائمتهم، وفي كل الصور تبدو السلطانة ومحور الجالسين أو الواقفين والمحيطين بها.
ثمة صور لإعلانات ترويجية خاصة بحفلاتها وفي بروفات أغنياتها، أو وهي على المسرح تؤدي أدوارها، وصورة تظهر فيها وهي ترتدي البنطلون والجاكيت والكاب، في رحلة إلى مدينة الأقصر عام 1924، وصور أخرى مع أحد الأطفال وهو يُشربها بيديه المياه الغازية، وصورة وهي طفلة في الثالثة من عمرها، وصورة مع طفل سوداني. زارت أم كلثوم ومعها فرقتها مدينة حلب عام 1931، وأقامت فيها ثلاث حفلات، ونزلت في فندق بارون وغنت في مسرح الشهبندر الجديد. التُقطت لها صورة نادرة في محلات "شاهين" في حلب، وكيل شركة "أوديون" للأسطوانات الموسيقية التي كانت تسجل أم كلثوم عليها أغانيها. في تلك المرحلة كتب أحمد الأوبري مقالاً في مجلة "الحديث" الحلبية يقول فيه، عقب استماعي إلى مطربة المشرق أم كلثوم، التي قدمت إلى حلب وأحيت فيها ثلاث حفلات كانت تسترعي انتباهي الأحاديث والأقوال التي كانت تدور على ألسنة الناس قبل قدومها ولا شك في أنك كنت تسمع بعضهم يقول: إن أم كلثوم خارقة من خوارق الطبيعة. وآخرين يدعون: أن غناء أم كلثوم شيء لا يستطيع الإنسان وصفه. وغيرهم يؤكد: أن من يستمع إلى أم كلثوم يظل مختلجاً سكران "مسطول" يحلم طوال ليله ولا يفارقه الحلم حتى صباح اليوم الثاني. سواهم يحكم: بأن أم كلثوم في الاسطوانة غيرها فوق التخت فمن سمع الاسطوانة لم يسمع أم كلثوم. لا قياس. لا تشبيه. وغير ذلك من الأقوال.
هناك مجموعة صور قد نراها للمرة الاولى وفيها تظهر أم كلثوم بالألوان، ملامحها وتعابير وجهها واضحة وجلية أكثر مما كانت تظهره الصور القديمة بالابيض والأسود. هذه الصور الملونة تكسر نمطية الحنين والانتيكا في الصور السائدة لأم كلثوم.
هناك صور تظهر البعد الإنساني لا الأسطوري لأم كلثوم. القصة ليست في الصور بل في حكاية بعضها. لهذه الاسباب تداول هواة الانترنت بعض الصور أكثر من غيرها، كأنهم يتداولون نكتة أو نهفة أو طرفة أو "كوميديا سوداء". الهواة يحوّرون الصور عن مسارها وطبيعتها، "وعظمة" أم كلثوم الغنائية وجديتها في الغناء، تجعل صورها "غير المألوفة" قابلة لتكون أداة للمرح أو اللعب، منها صورتها عندما سقطت على مسرح الأولمبياد في باريس. تقول الرواية المرافقة للصورة إن أم كلثوم ذهبت لتغني في باريس عام 1968، بعد هزيمة عام 1967، لتؤكد قدرة مصر على النهوض والوقوف على رغم الهزيمة. وقد سقطت وهي تغني "الأطلال"، وعندما انطلق صوتها الصداح بهذا البيت:
"هل رأى الحب سكارى مثلنا كم بنينا من خيال حولنا".
في تلك اللحظة، استبد الطرب بأحد الشبان المخمورين من الجمهور، فانطلق مسرعاً وصعد إلى خشبة المسرح، وركع أمام أم كلثوم على ركبتيه وأمسك قدمها اليمنى بكلتا يديه، عازماً وبإصرار على تقبيلها، ورفضت هي، وحاولت تخليص قدمها من بين يديه، فشدّتها إلى الوراء، وبين شدّها وتشبث يدي الشاب بها، تهاوى جسدها، وسقطت على خشبة المسرح. ولا شك أن سقوط أم كلثوم كان مؤلماً وموجعاً جداً لها، لكن المهم أن الحادث كله من لحظة سقوطها إلى وقوفها وعودتها إلى الغناء لم يستغرق أكثر من ثلاث دقائق، فصبرت على الألم، ونهضت لتواصل غناء "الأطلال" وحولت أم كلثوم الحادث المثير، إلى نكتة، لتخرج الجمهور من حالة الارتباك. بمجرد وقوفها عادت سريعاً لتغني "هل رأى الحب سكارى مثلنا"، في حين أن الشاب في أيدي رجال الأمن يقودونه إلى خارج المسرح، وغنّت صدر البيت على هذا النحو "هل رأى الحب سكارى بيننا" وهي تشير بيدها إلى الشاب، فضحك الجمهور وانطلق يصفق ويهتف لها بحرارة أشد انبهاراً بمقدرتها على تجاوز الحادث بسرعة.
صورة أخرى لأم كلثوم مع معجبة تقبلها بطريقة خاطفة على فمها، كانت أشدّ وقعاً لدى جمهور مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت، إذ بدت أم كلثوم ممتعضة وتحاول أبعادها عنها. لكن الكاميرات استطاعت التقاط هذه اللحظة الغريبة التي تظهر جنون بعض الأشخاص وهوسهم بأم كلثوم، ولم يلتقط مصور تلك الصورة تكملة ما حصل وماذا جرى بعد تلك القبلة. فماذا حصل بين أم كلثوم والمعجبة، هل كانت قبلة عابرة أم كانت بداية لإشكال؟ أيا يكن التخمين حول ما جرى، يمكن القول إن قبلة المعجبة لم تكن مجرد قبلة. فقد فاجأت الجمهور الذي سرحت مخيلته في توهمات كثيرة. نشرت صورة نادرة لأم كلثوم وهي تتناول غداءها من الطنجرة (او القدر) مع عازف القانون محمد صالح أثناء جلسة عمل (بروفة) لإحدى أغنياتها. ظهر في الصورة محمد عبد الوهاب. بدت "كوكب الشرق" وهي تأكل بملعقة مباشرة من الطنجرة من دون استعمال صحن خاص في حين أنّ عبد الوهاب كان ينظر إليها مستهجناً كأنه يشتمها وهو المتأنف الاريستوقراطي. أم كلثوم تأكل بطريقتها الريفية البدائية كأنها تنتهك اريستوقراطية الموسيقي وتعرّيها. نظرة "الموسيقار" إلى "ثومة" كانت غريبة، كأنها امتحان للعلاقة بينهما، أو امتحان للمطربة الكبيرة الآتية من الريف الفقير مع الاريستوقراطي البرستيجي الذي ينظر الى كل شي من رأس منخاره، ويعود ذلك لهوسه بالنظافة، هو الذي كان يغسل الصابون قبل استعماله ويغسل يديه قبل الأكل وبعده. وكان يضع منديلاً على أنفه، حتى لا يشم رائحة كريهة قد يكون مصدرها أي انسان.
نالت الصورة الكثير من التعليقات التي أشادت بعفوية المطربة الراحلة وبساطتها. فهي على رغم مكانتها الفنية، كانت تأكل من الطنجرة وليس بالشوكة والسكين، وتوقّف البعض عند عبد الوهاب وعلّق أحدهم بأنّه حين شاهد أم كلثوم تأكل بهذه الطريقة، قال: "والله العظيم ما حلحّن لك حاجه!".
أم كلثوم القوية وصاحبة "الصوت الصوت"، والجبارة المسيطرة على الحياة الفنية مدى عقود، كانت ايضاً تعيش القلق والتوجس، كأن السميعة سلطة من نوع آخر لا تقل أهمية عن سلطة الصوت أو مصدر متعة الاصغاء، أو كأن "الست" لا تشعر باعتزاز إلا اذا امتلأت الكراسي وحبس الجمهور أنفاسه وهو يسمع صوتها، هي المطربة الزعيمة كان لها طقوسها الخاصة التي لا تحيد عنها قبل صعودها على خشبة المسرح ومقابلة جمهورها. فهي تطمئن الى كل كبيرة وصغيرة من عازفين. ترتيب جلوسهم. تحرص أيضاً على أن يظهروا بشكل منسق متناغم، وهي اذ تقف على المسرح وتغني يبدو الجمهور كأنهم نسخة واحدة، أو جمهور متحد بنسخة واحدة من خلال الإصغاء. في صورتها النادرة تتلصص على جمهورها من خلف الستار قبل أن تظهر على خشبة المسرح. كأن سلطانها لا يسمح لها إلا بالفوز. هي لعبة الاحتراف طبعاَ، تلك اللعبة التي اجادتها مطربة اللوعة والغياب، وربما نجحت في هذا المجال بقوة الصوت قبل كل شيء، وبقوة الزمن.