حنا السكران

رضا نازه- المغرب

دخل أيمن الفصلَ متأخرا متباطئا. عشيةُ السبتِ مستثقلة ودقائقُها عنيدة. تفاجأ. المكان غيرُ المكان والأستاذة كأنها ليست هي، والسبورة مطبقةُ الدفتين. والطاولات!؟ كيف ومتى بدَا لهم أن يضعوها في شكل حلقة المُخيم عِوضَ صف الثكنة؟ وما سر المُسجِّلة والكاسيت فوق المكتب. كان رفاقهُ باسمين، والأستاذة كانت باسمة كذلك. كأنهم دخلوا الجنة فهم على الأرائك ينظر بعضُهم في وجه بعض، فلا غِلَّ ولا شحناء ولا سلطة تفسد اللحظة الفطرية الانسانية. فورا شغَّلت الأستاذة الكاسيت، فرنَّ صوت فيروز يشدو بذِكرى رجلٍ اسمه حنا السكران، لولا الأغنية لم يكن ليخطرَ ببال أحد. طفِقتِ الأستاذة تُوقِف الآلة عند كلِّ مقطع، وتطلبُ مِن أمْهَرهِم ذاكرةً إملاءَه عليها لتثبته على ظاهر السبورة. كان لأيمن حظ الأسد حتى أنها شكَّتْ فيه بصوت عالٍ:

- أيها الماكر.. أنت تحفظ الأغنية من قبل..

- كلا، أستاذة.. والله أنا أسمعها لأول مرة..

تبسمت، لا تكاد تصدق. ثم أعادت الشريط من جديد كي ينصتوا دفعة واحدة مع تتبع خيط الكلمات، وختمت ببعض الشرح. توقفت. نزعت قناعَ المرح الذي شاع، ووضعت قناع الجِد، وفتحت دفة السبورة الفارغة فإذا مكتوب في باطنها: "اكتب نصا حول نهاية القصة.." أف! إنها قبضةُ اختبار في قُفاز لَهو حريري. وغاص التلاميذ في كتابة النهاية، وغاص أيمن يبحث عن البداية. البداية المُحرقة علامة النهاية المشرقة..

"وكان يا ما كان .. قبل أن يهيجَ بحرُ الحرب يتلاطم. قبل أن يُكشر قِرشُها عن أنيابه المتراصة المبعثرة البارعة في الافتراس والفتك. كانت المروج هناك تمتد حتى تغمس أقدامَها في رمل وزبدٍ وموسيقى أمواجٍ وديعة، تُراقصُها العرائس وتنثر فيها البدائع والطرائف. كان الزمان وكان لا يشعر بعبوره أحد مثل عافية جسد لاواعية. لا حزنَ على ماضٍ. ولا همَّ بآتٍ. ودكانُ الحي كان يأتيه صبيان وبنات يلعبون. يتراشقون بماء نافورة على مسافة رميةٍ بحجرِ لعبةِ الحَجَلة. يغنون، وتغني لهم إحدى بنات الجيران بصوت نَدِيوي لا يجاريها فيه أحد ولا يجرؤ. لكن من خلف الدكان كان حنا السكران يجاريها ويحاول. لم يكن يعلم أن ذلك مستحيل. كان يرفع صوتَه ويرددُ مع بنت الجيران، يضيف نبرة حزن لذيذ لنبرة فرحها فيغلب حزنُه فرحَها أحيانا دون أن يفسد الأغنية. وبنتُ الجيران كانت تبكي دون حزن، بدمع صامت غريبٍ أمام دهشةِ رفاق الصبا، وحَيْرتِهِم، هل يبكون معها أم يفرحون. ثم يتتبعون مصدر الصوت فإذا هو حنا السكران. كأنهم يكتشفونه في كل مرة لأول مرة. الكل يمحوه من ذاكرته ويشطِبُه بمجرد الالتفات عنه. لا يستحق أن يبقى في الذاكرة. خلف الدكان يقبعُ ميتا حيا ملقى هناك كقمامة القرية. المسكين. لكل قرية قدِّيسُها ومجنونُها.. وسكرانُها!

الغريب أنه لم تكن تُرى حولَه قنينةٌ ولا أثرُ شراب. وهو سكران لا يُدرَى سرُّ سُكره، يتعرَّفُ على مَن غنت من بقايا دمعٍ غير جاف حول عينيها العسليتين. ثم يسألها ماذا تريد أن تكون.. "ممرضة!" ولا تتأفف منه ولا تشمئز كأنها ممرضة من يومِها ذاك، لا تتقزز من لمسِ مريض. فيغني لها في نبرة رجاء: "لا تنسيني.. لا تنسيني.." مُشيرا إلى صورة لها رسمَها أسفل الجدار حيث أسعف القربُ يدَه المرتعشة. ثم لا يلبث أن يعصف به التلعثم والهذيان، فينفض عنه الصبيان ويلبث هناك. مطروحا. المسكين. لا خير يرجى منه فيما يبدو. بقيةُ انسان. جثةٌ ملقاة تنتظر المُواراة..

ويمضي الأطفال كالعصافير في لعبهم يدورون في الحي، ثم يعيدهم المدار وهم يحملون حُزمَات زهور، يلقونها في الأخير على حنا السكران ليتخلصوا منها. فتغطيه تماما وتُكفِّنُه وتدفِنه، كانها أكاليل وُضِعت على قبر السكران المجهول. وهو من تحت أكوامها يمضي مرددا "لا تنسيني.. لا تنسيني.." وصورتُها المرسومة كأنها تنظر إليه، وقد خفف الطلُّ سوادَ الفحم الذي رُسِمتْ به، فصارت ذات لونِ دمٍ قديم في محبرة جرح خفي. مسكين. سكران الحي. لا يصلح لصالحة. عاجز عن الخير. وعن الشر أعْجَز. حتى الحرب إن قامت ستشمئز منه..

ورحلت بنت الجيران بعد أن شبَّتْ وارتدت بياضَيْن. بياضَ فستان العروس وبياض وِزرَة الممرضة. لكنها ما زالت تحمل آثار أغنية كوحم قديم. وعمَّ النسيان أو كاد. وقامت الحرب. فارت من التنُّور. وقفت على قدم وساق في غد العيد أو بعدَ غده. وانهدت الدكان، إلا أسفل الجدار لم يُرِد أن ينقض تماما. كأن يدا تحوط الرسمَ والكائنَ المرسوم. فيقتتل الناس على لا شيء. وتختفي مواكب الأرواح الوديعة وتحل محلها أرواح متمردة تقتتل على الهويات القاتلة وعلى المذاهب القاتلة. حتى يُقتلَ البريء فديةً لقتل بريء آخر. بل وحتى يُقتَلَ الحيُّ فقط لكونه ما زال حيا لم يمت بعد، كأن الأصل الموت. بينما جارُ السوء العدو السفلي الشامتُ ينفخ في النار مثل وزغ النبي إبراهيم: "العربي الجيد هو العربي المقتول.."، وينخرط زوج بنت الجيران بعد أعوامِ العسلِ في زقوم الحرب. تأخذه الحمية أو الفورة أو ملل النعمة حتى تُسلب. أو لأنه أصابه الفضول فأراد أن يضيف لكلمة الحب حرفَ راء أوسط، غير قانعٍ بحرفين جميلين. لكنهُ يُقتل من أول اقتتال، وتكاد تموت معه بنت الجيران لولا لطفٌ لم تفهم لغزَه. ويقنع القَدَر منها بالترمل. وتعود لقريتها الخاوية على عروشها. تتساءل مثل العزير، هل يحيي هذه الله بعد موتها؟ تلتفت لتجد ماء النافورة لم يزل على عهده ينز بماء شحيح مستمر تحت ركام الرخام. ولتجد الدكانَ ركاما كذلك، وحنا السكران اختفى. لا بد أنه المحظوظ الوحيد. عبَرَ من السُّكْر إلى السَّكَراتِ ولم يشعر بألم الموت. أطلت خلف ما تبقى من جدار الدكان. صورتها كباقي وشمٍ في لون دم مُعتَّقٍ. وصدى "لا تنسيني.. لا تنسيني.." ما زال يتردد مثل نداء مستغيثٍ بها، ومُغيثٍ لها بظهر الغيب!

التحقت بالمستوصف لتسعفَ من أخطأتِ الحربُ رميَه بسهمها الفاتك. وجدت في ركن مهمل رجلا جريحا لاحظت أن الجميع يعطيه ما تبقى من وقت كأنه بقية انسان. قررت أن تعطيه كل وقتها حتى يقف على رجليه. قيل لها إن المقاتلين وجدوه ملقى خلف أنقاض دكان، ولأنه كان صيدا غيرَ ثمين، فقد رموهُ برصاص في رجليه مثل كلب ضالٍّ عابر تمرنوا فيه على التصويب في وقت الفراغ. ثم لطموه على وجهه لطمًا، حتى اختلطت القسمات بالمخاط والدم. همست. إنه هو. إنه هو. ستسعفه. ستراعيه. ستدندن له أغنية النافورة القديمة علها تحييه. علها تنجيه. دَينًا بدَيْن. إنه خلَّدَ وجهَهَا على الجدار مثل حِرزٍ أبْطلَ فعلَ الرصاص عَن بُعد. فرحَت. إنه بقية قريتها الخاوية. الناجي الوحيد من الموت رغم ضياعه طول الحياة. حنا السكران. ستراعيه بعونٍ من بقية أرواح القرية. سيندمل جرحُه ويستغني عن سكره كرها بفضل طول الغيبوبة. سيصحو ويصفو وتبدو قسماته الحقيقية أخيرا. هو الوحيد كان العاقل في ثوب المجنون. يوم يُشفى ستتأبط ذراعَه ويخرجان. يمران قرب النافورة. يتأملان ماءَها القليل الوديع الذي بقي وفيا للري والرواية. ستشرق الشمس ويظهر قوس قزح. سيتأملها بجنبه. كأنها حمامة تنبئ بنهاية الطوفان. وبياضُ وزرتِها الناصعُ الساطعُ تحت الشمس يشبه بياض الأجنحة وريشَها. فما كلُّ الأجنحة متكسرة". 

رفعت الأستاذة عينيها عن ورقة أيمن وقالت من جديد في نبرة ارتياب:

- أيها الماكر... من أين لك بهذا النص؟

- كلا أستاذة... والله أنا أكتبه لأول مرة!