"جدارية"

مصعب الشيخ علي

كانت أزكى من رائحة الخبز قبيل الفجر

زهرة من الياسمين

منسوجة على جدار البيت القديم

تحلّق لتعلو إلى السماء

فوق السنابل الصفراء العطشى

تخرق جدار الصوت في مملكة الصمت الطويل

وتلقي رحيقها قنابل مدوية في آخر الجدار

جدار طويل من الإسمنت المسلح

على نقاط الاتصال مع العالم

وأنا كنت لا شيء

مجرد طفل أشعث الشعر بعينين بنيتين

يركض خلف الفراش أيام الربيع

يطيل الغياب عن البيت

يأتي بعد الغياب

معتاداً على توبيخ الوالدين

والهروب للارتماء في حضن الجدّة الهرمة

يلهو فوق البساتين البيضاء

بساتين كبيرة واسعة كانت بيضاء

بساتين كبيرة كانت من رمال وغبار

كان منزله في المخيم

في كل مدينة كان يوجد مخيم

في كل مدينة كان يفتتح مخيم

مخيم صغير يتسع لعائلتين أو ثلاث

وكل ليلة يستيقظ مذعوراً وسط الليل

على صوت الصفيح الذي يحتكّ بالإسفلت

هدية من الباعة المهرّبين ودول عدم الإنحياز

لتبنى غرفة جديدة وتنسج حكاية جديدة

لم يكن لدي اهتمام بشيء

لم يكن لدي معنى لشيء

كنت مجرّد طفل يلهو بالوحل والشعارات

نهر طويل من الوحل والرايات

كان يمرّ تحت النافذة

يحمل المشاعل الملتهبة تحت المطر

ويردد الهتافات والشتائم

ضد المجزرة

والدماء لم تكن قد جفّت بعد

والدموع لم تكن قد جفّت بعد

في القدس وبيروت وبغداد

نهر طويل من الدموع والدماء والهتافات

كان يمرّ تحت النافذة

متجهاً صوب مستنقع كبير من الخونة.

...

وأنا صرت لا شيء

عربي قديم يبتاع الصحف والكتب العتيقة

ذات الأوراق الصفراء

من تحت الجسور في المدن الكبيرة

من بين أقدام المارّة على الأرصفة المهشّمة

ثم يعود إلى عزلته وسباته العميقين

في غرفة ضيقة كانت آخر المدينة

فيها سرير ووسادة وغطاء ملوّنان

وكرسي وطاولة متحركة

من تحت الماء الذي كان يدلفه سقف الغرفة

على الضوء الأصفر الشحيح

كنت نهماً في القراءة

أقلّب صفحات الكتب والروايات

أعيش خيالها وأتقمّص أبطالها

حيث كنت الفارس على ظهر غولساري

والمنفيّ القادم إلى الثورة من ثلج النافذة

والراكب على الأرجوحة في سجن المزّة

كنت لا شيء

حتى أصابني وباء الغبار المنبعث من بين الصفحات

واستمعت إلى تقاسيم عود كان يتردد في الأنحاء

كان قادماً من الغرفة الأخيرة في النفق المظلم

ضربات على أوتار خجولة

كانت تدفعني إلى الإسترخاء على ضفة النافذة الوحيدة

نافذة وحيدة كانت بيني وبين العالم

وإشعال لفافة من التبغ تلو الأخرى

حتى أصبت بجنون القصيدة

وأنا أرتمي فوق السرير البارد محدقاً في الجدار

أفكر كيف يجيء الوحي

كيف أنظم حروف الأبجدية "ألفٌ باءٌ تاءٌ..."

مثل قلادة من المجوهرات فوق قطعة قماشٍ بيضاء

أفكر فيها ملتمعةً

خشنة كإناء من الفخار

غاضبة كهتاف الشعوب في الشّوارع

لها موسيقى كأوتار العود الخجولة!

...

ثم صرت لا شيء مرة أخرى

كم مرّة كنت لا شيء وصرت لا شيء

مجرّد فتى يلهو بالأوراق البيضاء

يدوّن فوقها خيالاته الواسعة

ثم يجمعها ويلقيها في القمامة

ويصاب بالإحباط.

كم مرّة أصبت بالإحباط

تحت ضوء القمر المحاق

في ليلة صيفية هادئة

كنت وجاري نتكئ على حافة الشرفة

ندير ظهرنا إلى البحر

ونعدّ أضواء القرى الملتمعة على سفوح جبال لبنان

وكان الموكب يمرّ سريعاً

يقطع خيالنا ويمرّ

يوقد خوفنا ويمرّ

آليات عسكرية وجنود ومدافع

تجوب الشوارع آخر الليل

وأنا أتساءل ضدّ من كل هذه الفوهات المصوبة

ولا حرب ولا أعداء في أحياء المدينة

كان جاري أصمّ أبكم لا يقوى على السمع والكلام

يهز رأسه موافقاً أو رافضاً، لا أدري

ومن يدري؟

هو كان أصمّ وأنا لا أجرؤ على الكلام!

كنت لا شيء

صرت لا شيء

كنت لا شيء

صرت لا شيء

لا شيء لا شيء.

آهٍ آه

كم مرة يولد ويموت الإنسان

حتى يلقى معنى للأشياء

هناك

آخر الطريق الليلكي

كنت مشغولاً بالتناقضات

وأتساءل لماذا يجنّ الفنانون في العالم

لماذا يقدمون على الإنتحار

هناك آخر النفق المظلم

على وقع أوتار العود

منذ الصباح الباكر

كانوا يعدّون المأدبة

مأدبة الوداع الأخير

وكنت مجرّد ضيفٍ مدعوّ على شرف القبّرة

التي سوف تقلّى في إناء الفخار

وتقرع حولها كؤوس النبيذ

نبيذٌ مرٌّ كالعلقم.

أجلس منذوياً على طرف الإيوان

أراجع ما قيل وأستمع لما سوف يقال

أرمق ماري الجميلة

تطفو صورتها على سطح إناء الحساء

كانت بيضاء ذات بشرة نقية

نشيطة كالعصافير في الصباح

لم تعجبها ملامح التعاسة المرتسمة على وجنتي

كانت شهية

كانت أزكى من رائحة الخبز قبيل الفجر

ترفع ضفيرتها إلى أعلى رأسها

حتى يظهر وشمها ممتداً من أسفل ظهرها نحو رقبتها

كثعبان يلتف كالسلاسل حول العيون الشاخصة

وأنا أرمقها من بين الآنية

حييتها عدة مرات من بعيد

كانت تلتفت تردّ السلام وتمضي

تمضي إلى حيث تشتهي ويشتهي الآخرون

كنت أعرفها طاهرة

لا أشكّ في حدسي

ولا أعير انتباهي لما يقال

كنت أرى فيها مدرسة

تعطي بعض المعنى للوقت

للوقت الذي لا يقاس

وكنت قد تعلمت أن أدوّن حروفي "ألفٌ باءٌ تاء..."

وأن أنظم قصيدتي على تناغم موسيقى جسدها

الذي ليس له مقام!

...

كانت أشدّ وقعاً من أنباء تحرير أرض محتلة

هتافات لشعوب تخرج إلى الشوارع والساحات

تنشد الأهازيج والأشعار

وأنا كنت لا شيء مرة أخرى

أراقب ما يجري من منفاي

أقرض الأوراق والحروف البيضاء

ويكتبون بإسمي

وينشرون بإسمي

ويحيون بإسمي

وينبذون ويرفضون ويقاتلون بإسمي

وأنا أكتب وأحيي وأقبل وأرفض بإسم الآخرين

آخرين لا إسم لهم

كانوا مجرّد خيال

خيال عن الوطن والحب والحرية

***

في ثنايا الحنين القديم

بحثت طويلاً ولكنني لم أجدك يا وطني

السارية تنتصب دون علم

والأمجاد أناشيد يرددها الأطفال

في المدارس الإبتدائية

يا وطني الغائب عن صفحات التاريخ المضيئة

بأهدابنا وعيوننا الصافية كسماء تموز

نريد أن ننشلك من عصور الجليد إلى النور

وأنا كمعتقل في سجون النازية

تلسعني المسؤولية بسياطها كل ساعة

لأركض في كل الإتجاهات

وأشيد أعمدة بنائك

كلمة واحدة ألقيها عليك

وأنت تخوض معاركك على جبهات الحرية

نريدها أن تكون ولا شيء غيرها

تلك الحرية

"وصّت سنونوة مهاجرة صغارها

يجب ألا نضيع على آخر المفارق"

وكان صوت العزف على أوتار العود ما زال مستمراً

قادماً من الغرفة الأخيرة

وكان يخفت شيئاً فشيئاً

ويعيد إليّ ذكريات مدينتي وطفولتي البعيدة

أفكر... أشعر!

كم هو جميل الحنين يا دمشق

لحظة للذكرى في مغبّ الأحداث المتسارعة

ولحظة ستأتي لا بدّ

لتسقط فيها أوراق الطغاة الأخيرة

في خريف وقصيدة ما!

...

كتبت تلك القصيدة للوطن ثم صرت لا شيء

لا شيء مرة أخرى!

وأنا رفعاً للمسؤولية عن عاتقي

منذ زمن أحسست بأنني أريد أن أصرخ

فأغلقوا فمي

أن أعتصم في الساحات

فدّمروا مدني

أن أقاتل

فقطعوا يدي

أن أهرب

فأغلقوا الشوارع

أن أستغيث

فقالوا عني كافر

ولذلك، منذ آخر محاولة للعيش في آخر هذا النفق

وفشلي فيها

أقوم بإعداد رسائل كرسائل إخوان الصفاء

ألقيها على عتبات البيوت

دون أن تحمل إسماً أو عنواناً

أكتب فيها

نريد أن نعيش رغم كل هذا الموت والخراب!