في انتظار الانفجار الآتي

فوزي يمّين

أجلس في زاوية مقهى يطلّ زجاجه على مغسل وموقف للسيّارات، في انتظار الانفجار الآتي. المغسل مسقوف بلوح من التوتياء. غرفتان صغيرتان، إحداهما خشب ينام فيها العامل على ما يبدو، والثانية غير منتهية الطلاء، نصفها مدهون والنصف الآخر مقشور تظهر منه حجارة الخفّان. أمام الغرفتين، بضعة كراس بلاستيك متناثرة بشكل مرتجل، وطاولة واطئة فوقها إبريق وكاسات صغيرة متفرّقة: "متّة" على مدار السّاعة! للوهلة الأولى، يتراءى لي وأنا أتفحّص المكان من زجاج المقهى، أنّي بالقرب من موضع ما على الحدود اللبنانية- السّورية، لا أعرف أين بالتحديد. يصبح المشهد فجأة مشتبهاً فيه، وتالياً الانفجار قريباً.
أصلاً كلّ مشهد مشتبه فيه، وكلّ انفجار هو قريب.
رأسي لصق الزجاج: الانفجار الآتي متى يأتي؟
أحاول، بقوّة لاإرادية وبسخرية ماكرة لم أرثها من أحد، ولطالما اكتنزتها صغيراً في داخلي، أحاول أن أقوم بعمليّة حسابيّة معقّدة تدخل ربّما في ما يُسمّى علم "الإحتمال". كأنْ أقيس مثلاً المسافة الزمنيّة الممتدّة بين انفجار وآخر، لأكتشف ما إذا كان هناك من رابط خفيّ، ثابت، مشترك. لعلّني، في ذلك، أستطيع أن أقع على معلومة دقيقة تمكّنني من معرفة الفاصل الزمنيّ الصحيح، ولو بنسبة تقريبيّة، فأتوقّع حدوث الانفجار الآتي. لكن، هل يستطيع أحد من خلال التوقّعات أن يستبق الحدث، أم أنّ الحدث هو الذي يظلّ يستبق كلّ التوقّعات؟
أصلاً، كلّ عمليّة حسابيّة هي عملية مشتبه فيها.
أمامي على الطاولة فنجان قهوة إكسبرسو مكبوس طازجاً، سيجارة مشتعلة مسنودة على طرف المنفضة. بخار الفنجان ودخان السيجارة يتصاعدان ويختلطان ليشكّلا غيمة صغيرة في الجوّ، لكأنّها من مخلّفات انفجار صغير وقع منذ قليل في المقهى ولم يسمعه أحد. أنظر إلى وجوه الجالسين في المقهى علّني أعثر فيها على ما يُوحي بحدوث أمر مماثل، فلا أجد شيئاً.
الراديو يبثّ أخبار الساعة.
أقود سيّارتي إلى المطار. عوض أن أسلك نفق سليم سلام آخذاً الأوتوستراد من تحت، أذهب في اتّجاه الطيّونة، محاذاة الشيّاح. هناك، على تلك الطريق، زحمة سير خانقة، زمامير كثيرة، ناس على الجهتين بشكل كثيف. منهم من هو مسرع كأنّما تأخّر عن موعد، ومنهم من يتلفّت يميناً ويساراً باحثاً عن شيء غير محدّد، وآخر واقف مسمّراً على الرصيف هائم النظر في اتّجاه نقطة يخال الناظر إليه أنها بعيدة جداً عنه لكنّها في رأسه. شيء من الوجوم. من التوتّر. من الخوف. من ضيق النفَس. من انتظار شيء ليس مفهوماً ما هو بالتحديد. ضغط.
الراديو يبثّ أخبار الساعة.
أنا أبثّ لحناً من شفتيّ وأدندنه بطريقة خرقاء. ألاحظ أنّي أشدّ بكلتا يديّ على مقود السيّارة بلا سبب، وأطلق البوق بلا انتباه. ألاحظ أنّي أدخّن بكثرة وأنفث الدخان من شقّ صغير في النافذة وأنا أجول بناظريّ في كلّ اتّجاه. ألمح ولداً جالساً على القارعة، سانداً ظهره إلى عمود، وممدّداً رجليه بالكامل. هل هو يستريح؟ هل استراحته موقّتة؟ هل يجب أن يواصل سيره؟ وإلى أين؟ أحاول أن أبتسم له، أو أن ألفته بإشارة من يدي، لكنّه لا يبدي أيّ ردّ فعل. جامد هو لا يتحرّك.
الراديو يبثّ أخبار السّاعة.
فجأة: "يطير في الجوّ. الولد يطير في الجوّ ويخبط على سقف سيّارة قريبة منه. يطقّ ظهره، وتُسمَع الطقّة بوضوح. ثمّ بعدها يُسمَع دويّ انفجار. سيّارة مفخّخة. الولد يسقط على سقف السيّارة المفخّخة".
هذا ما يبثّه الراديو الآن من حديث يُدلي به شاهد عيان كان نجا من الانفجار بأعجوبة. يعلّق المذيع قائلاً إنّ صوت الانفجار يتأخر أجزاء من الثواني، لأنّه أوّلاً يرسم خطّاً مقوّساً في الهواء، وفي الوقت الذي يرسم فيه الصوت، صوت الانفجار، خطّه المقوّس هذا، من الممكن أن يبصر شاهد عيان مشهداً قبل أن يسمع الصوت.
ألتفت بعصبيّة من زجاج نافذة السيّارة في اتّجاه الولد الجالس على القارعة، الساند ظهره إلى العمود، والممدّد رجليه بالكامل، فأجده ماثلاً في مكانه، جامداً لا يتحرّك.
الراديو يبثّ أخبار الساعة.
حال من الهلع تسود المنطقة. رجال الأمن يضربون طوقاً محكماً حول المكان. قوى الدفاع المدنيّ تخمد النيران. الصليب الأحمر ينقل القتلى ويسعف الجرحى. السياسيّون يستنكرون. الأدلّة الجنائيّة تمسح ساحة الجريمة وترفع البصمات. وزير الداخليّة يدعو إلى الوحدة الوطنيّة. قاضي التحقيق يكلّف الشرطة العسكرية تفقّد موقع الإنفجار. معلومات تفيد أنّ السيّارة المفخّخة مسجّلة ورقمها صحيح وقد تمّ بيعها وشراؤها أكثر من مرّة، وأن البائع معروف والشاري معروف، وأن القوى الأمنيّة تلاحقها منذ سنوات. في الأثناء، قوّة من فوج المجوقل في الجيش تدهم أحد الأحياء القريبة المشبوهة. لا معطيات جديدة. التحقيق مستمرّ.
المشاهدون يشاهدون.
المستمعون يستمعون.
أنا الآن في ساحة الجريمة. وحدي. أنظر. لا أرى شيئاً. أصرخ. لا يطلع صوت. هدوء. هدوء تامّ. الجثث المتفحّمة تسبح في نشيجها الأخير. الأشلاء المترامية بعيداً عن أجسادها ترتاح بلا أجسادها. الأطراف المتناثرة ترندح لحنَ اندثارها، كلّ طرف على حدة، كآلات أوركسترا شديدة التناغم. الوجوه التي بلا ملامح ترفل في نعمة عدم التعرّف إليها. كلّ شيء ناشف وجافّ كطبل جنازة. هدوء. لا أسمع شيئاً. حتى النار التي تبتلع كلّ شيء كوحش خرافيّ، لا صوت لها. النار التي بلا معدة. التي لا تهضم. النار التي تأكل ولا تشبع. هدوء. لا أسمع شيئاً. فقط أصوات الذين ماتوا منذ قليل، الذين شبعوا موتاً بين ألسنة النار التي تأكل ولا تشبع. أصواتهم الحيّة المنبعثة من أفواههم المحترقة. الطالعة من تحت الأرض، النازلة من فوق السماء. أصواتهم التي تقول لي كم أنا جبان. أصواتهم التي تقول أشياء جميلة عن الأمل الذي أخسره انفجاراً تلو انفجار. أصواتهم التي ترتفع في الهواء كمناديل حمراء وتبحر من دوني. أصواتهم التي تنام مطمئنّة في يقظتي القلقة.
الراديو يبثّ أخبار الساعة.
أنا في سيّارتي، عالق في زحمة السير. ثمّ، كأنّ شيئاً لم يكن، كلّ شيء يختفي. حركة السير الخانقة، الزمامير الكثيرة، الناس المنتشرون على الجهتين بشكل كثيف. الولد الجالس على القارعة. الوجوم. التوتّر. الخوف. ضيق النفَس. الضغط. كلّ شيء يختفي. حتّى صفير اللحن الذي أدندنه بطريقة خرقاء. تنفرج عجقة السّير ولا أنتبه. أنفض رأسي، أضغط على دوّاسة البنزين وأنطلق.
وحده صوت الراديو لا يزل مسموعاً، وطقّة ظهر الولد على سقف السيّارة المفخّخة مسموعة بوضوح، وضوح السماء المنفرجة فوق المدينة التي تغطيها غيمة سوداء كبيرة.
لا أحد على الطريق.
وحدي، في سيّارتي، ساحبٌ في اتّجاه المطار. لكن ما الذي يقودني فعلاً إلى طريق المطار؟ هل أنا المسافر؟ أم أقصد المطار لاصطحاب صديق عزيز آتٍ من السفر بعد غياب طويل؟ ثمّ، ما الذي يأتي به في هذا النهار المشؤوم بالذات؟ هل أنا على طريق المطار ولا أقصد المطار تحديداً؟
أجلس في زاوية مقهى يطلّ زجاجه على مغسل وموقف للسيّارات، في انتظار الانفجار الآتي.
أتفرّج. لا أفعل شيئاً.
لا أستطيع أن أفعل شيئاً. أشعر بالعجز. لا أشعر إلاّ بالعجز. العجز الكامل التامّ الناجز. أشعل سيجارة وأطلب فنجان قهوة ثانياً.