أول "زبون"!

"يا سنين اللي رح ترجعيلي، ارجعيلي شي مرة ارجعيلي". رفعت صوت الراديو في سيارتها - متعجبة وفرحة في الوقت نفسه - انهم يبثون أغنيات فيروز في المساء. لمَ لا يُخصِّصون إذاعة لا تبث سوى الاغنيات الرحبانية؟ كانت الساعة تقارب الثامنة. طرق بيروت تبدو مختلفة الليلة. هل هي من يرى - وبسبب وضعها النفسي - الأشياء موحشة؟ أم فعلاً إنه الخوف الذي يمزّق شرايين المدينة، ويجعلها قلقة من عدم القدرة على المقاومة أكثر؟ راحت تتمعّن بكلمات الأغنية. السنوات كانت قاسية عليها، وهي إذا عادت كما تتمنى فيروز، تخشى أن تعيد رسم المأساة نفسها. فعلاً ليلتها مختلفة. تُرى، على ماذا تندم؟ هل تندم لأنها تزوَّجت باكراً؟ هل تندم لأنها أحبّته حدود الجنون؟ هل كانت لتقول إنَّها عاشت، لو لم تتحدَّ العالم بأسره وتتزوّجه؟ كان ذلك قبل تسع سنوات. يومها كانت في بداية العشرينات. وهو على أبواب الثلاثين. يا الله، كيف لها أن تنسى لقاءهما الأول؟ ضحكته التي ذوّبت نصف بنات الجامعة. حضنه الذي جعلها تكتشف ماذا تعني كلمتي امرأة وأنوثة.
ها هي الأغنية الثانية. "خلص الحب وسكتت الكلمة وتسكّر القلب ما وقع ولا نجمة". نعم، لقد سكتت الكلمة. لكن الحب لم "يخلص"، والقلب بقي مفتوحاً على جرح ينزف كل يوم.
قبل أشهر قليلة تُوفي الزوج. أرادا من البداية عائلة كبيرة. أنجبا ثلاث أولاد. أكبرهم يبلغ ستّ سنوات. سكتة قلبية أوقفت حياته، وجعلت حياتها جحيماً. لم يترك لها المال. لم يترك لها أقرباء من جهته يساندونها، أو أهلاً من جهتها يعطفون عليها ويغفرون لإبنتهم تمرّدها ورحيلها مع رجل متزوِّج. رجل لم يكن قد مرّ على إرتباطه الاول سنتين، حتى رحل معها هي وانفصل عن زوجته الأولى، من دون تبرير ولا مقدِّمات.


هي من المرّات النادرة التي أكشف فيها سراً للآخرين على الورق. المرة الأولى التي أخذل فيها صديقة أخبرتني عن معاناتها مع تجربة مريرة، أعتقدتُ أنها لا تحدث سوى في بعض الأفلام الهندية والعربية. لكنّها حدثت مع تلك السيّدة التي وجدت نفسها بلا معيل بعد وفاة زوجها. في الأشهر القليلة الأولى استطاعت أن تُطعم أولادها بما تبقّى من مال. لكنّ خوفها على معدتهم الخالية، كان يزيد مع مرور الوقت. لم تجاهد كثيراً لإيجاد عمل. لم تطرق الكثير من الأبواب، ولم "تضحِّ" كما تُخبرنا القصص عن "بطولات" الأمّهات.
الحياة قرارات. مجرَّد قرارات لا شيء أكثر. بعضنا يختار الطرق الأسهل. في لحظة، يتخلّى عن مبادئ عليها ترّبى لسنوات. ينسف "أخلاقيّات". يقولب معان أخرى لمفاهيم مثل "الشرف" و"الكرامة". هذا الخيار يثير اللعاب على جدلٍ كبير لكنّه يحمل وجهة نظر... في المرة الاولى، جعلها الحب، تبني زواجها على أنقاض امرأة أخرى. وفي المرة الثانية، جعلها هاجس البقاء وجوع أولادها أن تتخلّى مجدداً عن اقتناعاتها. في شقّة مجاورة لشقتها، تسكن سيدة يلفها الغموض وتحوطها الكثير من الشبهات. تلك السيدة التي ناهزت السبعين، يقال إنَّها كانت من بائعات الهوى. تقرَّبت منها كثيراً. عطفت عليها وعلى الأولاد. كانت تجلس معها لساعات. أخبرتها الكثير عن شخصيات عامة ورجال سياسة كان يفرغون في سريرها الكثير من الشهوات، ويشاركونها أسراراً مصيرية عن الشعب والبلد. الشهوات لا تتبدل، حتى لو باتت السياسة هشّة، وأصبح رجالاتها قلة. الحياة قرارات. لا شيء أكثر. وهي في تلك الليلة، كانت في المصعد، تطلب الطبقة الخامسة حيث ينتظرها الزبون الأول!


georges.moussa@annahar.com.lb
Twitter: @moussa_georges