كي لا يذهب الشعر إهدارًا

الشعر اللبنانيّ الحديث والمعاصر يتيم.

ينبع قولي هذا من وعيٍ مركّبٍ، هادئٍ وعميقٍ، لأحوال التلقّي الشعريّ، ليس في لبنان فحسب، بل في العالم العربيّ، وربّما – لكنْ بنسبةٍ أقلّ - في العالم الغربيّ.

أقول هذا القول، بعيدًا من أيّ انفعالٍ متوتّرٍ أو رعونة. وأقوله بشجاعةٍ تقويميّةٍ عالية، وبعزمٍ، وبقوّةٍ، وبصرامةٍ، متحمّلًا ما يترتّب عليه من مسؤوليّةٍ معنويّةٍ وأدبيّة.

لماذا هو يتيم؟

جوابًا: يهمّني أنْ أشدّد على ناحيةٍ معيّنةٍ من نواحي هذا اليتم. فالشعر اللبنانيّ الحديث (المعاصر منهم خصوصًا) يتيمٌ، لأنّ أطراف النقد – إذا انوجدوا (؟!) – يخافون هذا الشعر. يتهيّبونه. يخشون ركوب مركبه. وربّما – أقول ربّما – ليسوا مهيّئين لقراءته، في ضوء مكوّناته ومقاييسه ومعاييره.

إنّي، والحال هذه، ألقي المسؤوليّة، مسؤوليّة هذا اليتم، على عاتق الجهات المرجعيّة، الأكاديميّة والجامعيّة والنقديّة، المخوّلة معرفيًّا مقاربة هذا الشعر، لاكتشافه أولًا، وللتعرّف إليه ثانيًا، من داخله، وبأدواته، ولجعله، ثالثًا، في الخزانة المكتبيّة، وفي متناول الأجيال المهتمّة بالشعر خصوصًا، وبالأدب على وجه العموم.

هل ثمّة جهةٌ مرجعيّةٌ، أكاديميّةٌ، جامعيّةٌ، ونقديّة، تملك حصانة الاهتمام المتخصّص بهذا الشعر، لتفكيكه، ولمعرفة خصائصه، وتعيين مكانته في حركة الشعر عمومًا، ولا سيّما ما يتّصل منه بنوعٍ محدّد فيه: قصيدة النثر؟

يجب أنْ أفترض أنّ هذه الجهة موجودةٌ، في جامعةٍ لبنانيّةٍ مرموقةٍ ما، بل في أكثر من جامعةٍ لبنانيّةٍ مرموقةٍ ما. فهل خطر في بال هذه الجهة، أو تلك، هنا وهنا، أنْ تخطّط لمشروعٍ بحثيٍّ متكامل، يضع نصب عينيه، إلقاء الضوء الكيانيّ والتفكيكيّ على هذا الشعر، ليس إكرامًا لشعرائه ومبدعيه، بل إكرامًا للشعر بالذات، للشعر اللبنانيّ الحديث والمعاصر بالذات، بل خصوصًا إكرامًا لـ"لبنان الشاعر"، الذي بات – يا للعار – لبنان كلّ شيء، ولبنان أيّ شيء، إلّا لبنان الشاعر.

هل يجب أنْ أقترح بنفسي، باعتباري "متورّطًا" بهذا الشعر، ومهتمًّا به، خطوطًا أوّليّة، تمكّن هذه الجهة الجامعيّة، أو تلك، من وعي الأهمّيّة المطلقة لهذه الخطوة العملانيّة التطبيقيّة؟

لا أدّعي كفاءةً عاليةً في هذا المضمار. ولا أتنطّح لهذا الدور. لكنّي أستصرخ الجامعات المرموقة في لبنان – وأزعم أنّها قليلةٌ لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة – داعيًا إيّاها إلى الاضطلاع بهذه المسؤوليّة الجليلة، في غمرة ما تعانيه دراسات الأدب الحديث والمعاصر – الشعر في شكلٍ خاصّ – من تراجعاتٍ خطيرة، ليس على مستوى المتخرّجين فحسب، بل أيضًا ولا سيّما على مستوى الأساتذة الخلّاقين الطليعيّين القادرين على تنكّب هذه المهمة القصوى.

الشعر اللبنانيّ الحديث والمعاصر يتيمٌ. بل مرذولٌ موضوعيًّا. بل مضطَهدٌ موضوعيًّا. بل غير معترَفٍ به موضوعيًّا.

لا أخاطب الدولة، ولا الحكومة، ولا الوزارات المعنيّة. لأن لا حياة لهذه وتلك.

أتوجّه إلى الجهات الجامعيّة والأكاديميّة، المعنيّة تاريخيًّا بهذه القضية.

لماذا أتوجّه إليها حصرًا وتحديدًا؟

لأنّ هذه الجهات يجب أنْ تدرك أنّها هي اليتيمة، لا هذا الشعر فحسب.

هي يتيمةٌ، ومرذولةٌ، ومضطهَدةٌ، وغير معترَفٍ بها في "السوق"، مذ تراجعت عن الاهتمام بدورها الأساسيّ، كحصنٍ منّاعٍ للعلوم الإنسانيّة.

هي، في هذا المعنى، متواطئة ضدّ ذاتها.

وأنا أتوجّه إليها بهذا النداء، طبعًا من أجل أنْ لا يذهب الشعر اللبنانيّ الحديث والمعاصر إهدارًا، لكن أيضًا لكي لا تطلق النار بنفسها على نفسها، على رأسها، وعلى نخاعها الشوكيّ، هذه الجهات الأكاديميّة والجامعيّة اللبنانيّة المرموقة!

Akl.awit@annahar.com.lb