ماهية من دم

رضا نازه- المغرب

كاتِماً فرحتَه ونشوتَه، أولَج عَدْلِي بطاقته الجديدة في شباك المصرف، فابتلعها دون إبطاء. ثوان تتعَرَّف فيها الآلة هويتَه وسيضع رمزه السرّي وسيسحب جنيهات من أول راتب منتظَر على أحرّ من الرصاص المصبوب. قبلها تصَرَّمَت أشهرٌ في انتظار تسوية وضعه الإداري والمالي الجديد، ولكَمْ كانت مضنية مريرة. تلك الأشهر... وما زالت.

لا بأس. عن قريب ستنبعث الورقات من فوهة الشباك الأفقية المستطيلة، وسيلتحق بشِلّتِه في المقهى أو حيثما سبقوه كي يُمضوا أمسية خميس لذيذة. لولا أن فرحتَه بالنقود المنتظرة كانت تحوم حولها مشاهد قنص الآدميين. لا عليه. من أجل ذلك قصَدَ شباك المصرف. سيطردها الليلة مع الشلّة والرفقة اللطيفة. ستغيب عنه صُوَر الجماجمِ المقصوفة برصاص محظور والخيامِ المستعرة بمن فيها. سيُخرِسُ الليلةَ عُواءَ ماسورة الجرّافة المصفحة وهي ترْكُمُ الطرائدَ الآدمية بعضَها فوق بعض. سيخفت في رأسه أخيراً صدى ناس يصرخون ويستغيثون يا الله! يا الله! يا الله! وينمحي منظر زميلِه الجرّافِ الماهر الحاذق الذي صمّ عن الصراخ ولم يوقفه إلا حاجز الحديد. لا عليه. البارحةُ أمرٌ واليومُ خمر. وإنما تلك جثث شعب آخر، لهم ربّ آخر، مصداقاً للأغنية. وهل يضرّ الشاةَ السلخُ بعد الذبح!

ولكن ما ذنبه هو وأقرانه؟

بل يا لحسن حظهم! كما خطب فيهم الضابط الكبير شحذاً للهمم وترسيخاً للعقيدة الجديدة. لقد صادفت أشهر عملهم الأولى أحداثاً جساماً في الميادين تهدد الأمن القومي. كانت فرصة لتدريب حَي على فرض الأمن، لا مناوراتٍ فقط ولا محاكاةً لأحداث شغب افتراضية في الثكْنَات ومراكز التكوين. فليتعلموا حرفتهم في الدماء المهدورة.

ثم إنهم أصحاب رسالة. كما قال الضابط الكبير... كذلك.

إنها عيون أمّ الدنيا. إنها خمسة آلافِ سنة من حضارة فرعونية. إنهم خير أجناد الأرض. قضاءٌ شامخ وجيشٌ عظيم، وفتاوى من كل الأحجام تبَيِّضُ صحائفَهم، وأضواءٌ خضراء من المشايخ والدعاة المخمليين والفنانين ونجومِ الظهر الأحمر.

لكن... ما بال قلبه يفتيه بغير ما أفتاه الناس وأفتَوْه!

***

انفتحت فوهة الشباك الآلي المستطيلة، وانقذفت الجنيهات بقوة غير مألوفة. أصابت عدلي الرجفة. الجنيهات مُضَرَّجَة بسائل لزج أحمر. بعضُها سقط أرضاً والتصق الباقي بحافة الشباك. انطبقت الفوهة المستطيلة.

مكث يحملق مشدوهاً مقشعرّاً وقد زاد انتصاب شعره الجَعْدِ أصلاً. انزاح جانباً كحيوان مذعور. هرع إلى الباب الزجاجي ينقر وينقر ذاهلاً عن أن اليومَ يومُ عطلة، وأن الوكالة صِفرٌ من الموظفين. لكن عنصر أمْنِ البنك سمع نقره المحموم على الزجاج فأقبل من الناحية الأخرى على مهَل. حين لمحه عدلي مقبلاً بهدوء هرول إليه متمتماً محاولا وَصْفَ ما حدث. لكن الحارس لم َيظهر عليه أثرٌ من مفاجأة، لا على قسماته ولا على إيقاع مشيته التي حاول عدلي جاهداً أن يستعجلها، سُدىً.

كان عدلي يكلمه شاحب اللون كأنما دمه هو الذي قد فُصِد داخل الشباك وفاض على الورقات:

"- ممكن أعرف إيه اللي بيحصل؟

- ولا تتخض يا فندم، إنت ضروري إما داخلية وإما جيش؟

- أنا جيش...

- لا مؤاخذة يا فندم ذا بْيِحْصَل كل مرة يسحب فرد من الجيش ولا الداخلية فلوسو..."

مستنكراً مَا قيل له، تحوّل استفسار عدلي صراخاً في وجه الحارس، كأنه مدير البنك المركزي. لكن الحارس تمالك نفسَه خشية أن تكون رؤية السائل الأحمر قد هيجت الزبون فيشهرَ سلاحاً في جيبه ويضربَ في المَليَان. كل شيء صار ممكناً وصار الدم "مَيَّة".

في هدوء تام أخذ منديلاً من المناديل التي رصدها البنك لتلك الحالات، ولفّ فيه جنيهات عدلي وناولها إياه، ثم أخذ منديلاً آخر أكبر وشرع يمسح الشباك حتى إذا لمَّعه التفت لعدلي قائلاً:

- شوف يا فندم، عشان تسدأ (تصدق) أقترح عليك حاجة. تاخذ فلوسك وتحطها في جيبك وتستنا معيا لحد ما يجوا ناس ثانيين وتشوف بعينك إن اللي قلتو مش تخاريف...

كان عدلي مستعجلاً يريد أن يلحق أصحابَه، وقتُ إجازته ينزف كجنيهات الشباك الراعف، وهو لا يستمتع بعنفوان كما اشتغل طيلة أسبوعه بعنفوان. لكن رجل الحراسة رَبَّتَ على كتفه لإنعاش صبره النافد. مهما شرح له وأفاض لن يقنعه إلا أن يرى بأمّ عينيه.

اقتعد درابزيناً هناك بعد أن وضع لفيف النقود الدامي في جيبه على مضض. أحسّ ببلل وحرارة كأن الدم حديث عهد بنزيف. سيتجلّط السائل لا محالة كما طمأنه الحارس، وربما قد يندثر بما أن ذلك من قبيل الكرامات لخير أجناد الأرض...

تعاقبت ثلة من الزبناء، زبوناً تلو آخر يسحبون نقودهم في سلام ووئام، ما منهم إلا تناول جنيهات لا شِيَةَ فيها ومضى، بينما كان يمزق أحشاءَ عدلي إحساس بحيف كبير، والحارس يؤكد له أنه ما دام لم ينبجس السائل الأحمر من الشباك فإن كل الزبناء الذين توَالوْا هم حتماً من المدنيين. مزيداً من الانتظار إذن...

رن جَوَّالُ عدلي فجأة. كان فَتُّوح زميله يناديه، فقد أبطأ كثيراً عن الشلة حتى ظنوه قد أصابه سوء.

- ألو، فتوح...أنا في ورطة، فلوسي بتنزف دم، الشباك بينزف دم...إيه...إيه... بتقول إيه... ولا يهمك...كلنا ذلك الرجل...

مكث ينصت لصديقه على الطرف الآخر من الأثير وهو يشرح له شيئاً غريباً. سُقِط في يده لِما يسمع. كل زملائه وقع لهم ما وقع له ويقع. منذ يوم 14 غشت. جنيهات نازفة راعفة. تباً لهم... ولماذا لم يخبروه من قبل أو على الأقل أمس. كان سيأتي بكيس بلاستيك ويسحبُ نقوده في ساعة متأخرة من الليل دون أن يعاين تلبُّسَه أحد، فيغسلَها ويتركَها تجفّ في الشرفة، أو يستعين بمروحة أو مجففة. لكنهم لم يفعلوا. أسلموه لماهيته الدامية.

استشاط غضباً...

- يا ولاد الـ*****

استرسل في أقذع الكلمات كأنه يفضّ اعتصاماً ويزجر الناس، أحياء وأمواتاً، فيما كانت تُسمع في الهاتف قهقهات زملائه الهستيرية الشامتة.

الآن أدرك لماذا أبَوْا أن يرافقوه حين حدَّثَهم عن حاجته للشباك. حتى صديقه فتوح تواطأ معهم وأسلمه للمقلب الكريه. بئس الرفاق وبئست الرفقة. لم يُجَنِّبوه المفاجأة القبيحة، ضيّعوا عليه فرصة الاستمتاع بنقود نظيفة مغسولة مجففة من أول "ماهية". وفوق ذا وذاك عرَّضوا حياته للخطر والإرهاب المُحتمل. من يدري، قد يكون شاع الخبر في أولياء دم رابعة، فهم متربصون بالشبابيك الآلية وبكل من يسحب نقوداً دامية ليسحلوه انتقاماً لذويهم. أو البلطجية لخلط الأوراق. والبلطجية شرُّ غائب...

التفت يميناً وشمالاً، على وَجَل، لا أحد يتربّص به. حارس البنك كان قد نأى عنه، ربما اشمئزازاً من منظر لم يُفقده التكرارُ فظاعتَه، أو تشاؤماً مِن شخص حتماً قد قتل نفوساً زاكية بغير نفس.

البلل الدافئ ما زال يسري في فخذه، وسُمْكُ المنديل لم يُغنِ شيئاً. تلطّخ جيبه بالحمرة القانية الآن، وصار يبدو كأنه ينزف. إنه ينزف فعلاً.

لبث متسمّراً لبرهة كالمؤبد، بينما دارةُ الدم تكبر وتتسع حول جيبه. لم يتجلط الدم كما وعده الحارس. ما زالت الجنيهات نازفة راعفة. حائراً واقفاً. كأنه خرج من مشرحة الأموات أو زُومْبِي استفزّته ظلمة الغروب. ما العمل؟

لا احتفال الليلة ولا احتفاء. سيعود إلى البيت عبر الدروب الضيقة متخفياً في ظلمة ليل بدأ يرخي سُدُوله على المدينة الثكلى الموتورة. انسلك في زقاق، ثم في آخر، ثم في درب، ثم في آخر دون وجهة حتى إذا بلغ ملتقى طرقٍ وجد كمين شرطة. لحسن حظه لم يكن شاخصاً هناك سوى عنصرٌ واحد من عناصر الكمين. كان قد ولى ظهره يقضي حاجته على الجدار. تريَّثَ عدلي قليلاً كي يرى هل السائل عند قدمي العنصر أحمر. لم يتبين شيئاً في عتمة المغيب...

انزاح من بعيد دون أن يرمقه أحد، وانسلك من جديد في دروب ثانوية أفضت به إلى طريق جانبية أسلمته إلى حديقة وسط مجمع عمارات. مشى على العشب المبلل بندى المساء، فبردت قدماه كقدمَيْ محتضر ومنهما سَرَتْ إلى جسده قشعريرة لم تبرحه حتى وجد نفسه وسط ميدان فسيح قرب مسجد كبير. كانت أبوابُ المسجد موصدة مغَلَّقة بصليب من أخشاب خشنة ومسامير غليظة كمسجد منكوب في بورما أو كشمير. هل ضلّ الطريق أم أن الطريق مكرت به وأتت به إلى الميدان... إلى مقر العمل!

طاف بالميدان الخالي ملياً، ثم توقف في ناحية منه. الصمت يلفّ المكانَ، والزمانُ غيرُ الزمان. أين رمضان. أين تلاوة القرآن. أين القيام. أين القنوت. أين سُفَرُ الإفطار. أين الاستغاثات... محاها عواء المصفحات والجرافات والطلقات القاتلة الماهرة. مَنْ في عِليين ومَن في سِجِّينْ...

في صمت، أحس بنظر نفسه إلى نفسه كشخص اغترب عنها فاشمأزّ، ثم أسلمه ذلك الشعور إلى شعور بنظر يخترقه من كل مكان كنظر الله، فاقشعرّ... بينما الدم ما زال نازفاً من الجنيهات. كان يجد حرارته في فخذه، وكان يحسّ بإنهاك شديد وتَلاشٍ لقوته. أحنى رأسه فرأى الدم يفور من جيبه كأن زميلاً من القناصة المَهَرة قد أصاب شريانا في أعلى فخذه. عفارم!

انتابه غثيان، فلم يتمالك نفسه أن تمدد فوق الإسفلت على ظهره. كان قد أعياه التطواف في مسرح الجريمة، كالقاتل.

وكالمقتول... أطبق جفنيه، فسمع دوي الجرافات والقناصة واستغاثات الناس، يا الله، يا الله، يا الله...وجاءه الموت من كل مكان وما هو بميت...