تنقضي الحروب وتبقى ندوبها محفورة، مثل حال وجه تلك القطة التي خرجت من بين ركام مباني الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي عينيها وجع المكان الذي لم يعد أليفاً وذلك البحث المتواصل عن أصحاب لم يرجعوا بعد ولم يحضروا لها مكعبات اللحمة والدجاج كما درجت العادة في كل صباح.
والواقع أنه لن يكون لها دلال لكثير من الأيام المقبلة، ذلك أن المعاناة بدأت ودموع حسين حمزة على حيواناته الأليفة التي أنقذ بعضها من بين ركام منزله تشهد على لوعة الجنوبيين، ومثل أحوالهم الأمور في البقاع وغيرها من المناطق التي هجرها أصحابها جراء العدوان الإسرائيلي.
ولن يكون بالإمكان في الأيام المقبلة على المجهول سوى الاقتداء بحال ذلك الشاب الذي تطوع للنداء على قطط الحي في الضاحية الجنوبية لإنقاذها من غارة منتظرة ومبنى انهار بعد ثوان من مغادرتها له تلبية لصوت بشري في مكان لم يعد أليفاً، يحمل إليهم الأصوات المرعبة التي لم تدخل في قاموس يومياتهم ولا مشاكساتهم وروحاتهم وجيئاتهم.
"أب الحيوانات الأليفة"
هناك في زفتا، كما في العديد من القرى الجنوبية التي دهمتها الصواريخ الارتجاجية وقنابل الجيدام، اختار ابن البلدة حسين حمزة أن لا يغادر لأن "اللي الو عمر ما بتقتله شدّة"، و"أولاده" بالمئات سيفتقدهم ويفتقدونه.
يسميهم أولاده و"يغنجهم" بين الغارة والأخرى ويبكي بينما يحكي لـ"النهار" عن معاناته التي لم تبدأ في الحرب الإسرائيلية الأخيرة، وإنما تعود إلى حرب 2006، تاريخ انخراطه بالصدفة في عالم الحيوانات الأليفة، هو الذي كان يهنأ بالعيش في ألمانيا وقد أخذ من البلاد الأوروبية أصول التعامل مع الحيوان الذي هو "روح ويفرح ويفتقد وينكسر خاطره"، وقد وجدها مكسورة في البلدات التي أنذرت في حينه بالإخلاء ولم يتبق من يهتم بها، ولاسيما أن الجنوب خزان غني بالمزارع وتربية الدواجن والبقر والأحصنة والنعام والكلاب والقطط، وجميعها صمام أمان الطبيعة التي ترفد بالخيرات وبوافر المحصول والحصاد.
وكما فعل حمزة في الـ2006، يكررها في الحرب الأخيرة، متنقلاً بالـ"فان" الصغير بين القرى بحثاً عن حيوانات أليفة تكون عالقة داخل المنازل أو في الحظائر التي تركها أصحابها منذ باغتها القصف المروّع حاصداً البشر والحجر.
يفكّر في احتمال أن تمطر، فيترك المزيد من الوجبات على مداخل البيوت المهجورة والمدمر بعضها، وحين يطل مرة بعد الأخرى تستقبله القطط والكلاب كأنه "الصليب الأحمر" أوالنجدة وسط سكون الإنسان وضجيج آلة الحرب. وتبقى الكلاب تهز بأذيالها فرحاً إلى أن يبتعد حمزة بحثاً عن مشردين جدد، فتعود إلى وحدتها، وإلى تلك الارتجاجات التي لم تألف حركتها في الأرض.
وجل ما يخافه حمزة أن يجد نقاط تجمع الحيوانات الأليفة التي باتت تنتظر قدومه بين الفينة والأخرى تحت ركام دمار القرى. ومنذ اشتد القصف وبات أي متحرك لجهة القرى الحدودية هدفاً للمسيرات المعادية، تقلصت الدائرة التي بإمكانه أن يتحرك ضمنها: "نجوت كثيراً من استهداف المسيرات وما عاد من السهولة بمكان الدخول إلى قرى لا يعرفه فيها القلة الصامدة من أهلها. وبذلك أصبح نطاق جولاته محصوراً بين زفتا والزهراني والعاقبية".
أما أقسى المشاهد عليه، فتكمن في الأعداد الكبيرة للقطط التي وجدها مدهوسة على الطرقات وبعضها يئن وليس من طبيب بيطري يعالجها بفعل النزوح. السيارات تعبر طرقات الجنوب مسرعة خوفاً من استهدافها، والقطط تبدو مذعورة وسط الطرقات لأنها لم تعتد على العيش خارج المنازل.
التمويل
يحرص حمزة الصامد في بلدة زفتا التي تعرضت للغارات كما حال العديد من القرى الجنوبية، وقد انتقل إلى منزل شقيقه بعد أن تعرض منزله للقصف، أن لا يخلو الفان الذي يملكه من الضمادات وأدوية الالتهابات لمداواة الحيوانات التي تصادفه في طريقه والتي أصيبت في الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الجنوب. يموله في مهمته أفراد آمنوا برسالته، وإن يعانِ لأن ما يصله لا يكفي وهناك حيوانات أليفة جائعة في أمكنة يتعذر الوصول إليها".
كان حسين يهتم بحيواناته وتلك الموجودة في قريته، لكن لاحقاً وتحديداً مع بدء التصعيد ونزوح أهالي الجنوب،بدأ أصحاب الحيوانات التي تركوها في القرى المحيطة بقريته يتواصلون معه ويطلبون منه مساعدة حيواناتهم، من الكلاب والأحصنة والقطط والدجاج والبقر وغيرها...
يقارن بين حرب 2006 وبين تلك الأخيرة على لبنان: "حتماً هذه الحرب هي الأقسى. في عناقيد الغضب تطوعت هيئات دولية لرعاية الحيوانات الأليفة التي تشردت، في حين تركت لمصيرها البائس في هذه الحرب، ولم نجد أي جهة دولية تتطوع للمساعدة ".
ويسأل: "أين أصوات الجمعيات العالمية للرفق بالحيوان وحماية الحياة البرية؟ لماذا هم ساكتون؟".
يعلق: "يقولون إن الإنسان أحق من الحيوان في زمن الحروب، والحقيقة أن كل روح على الأرض بحاجة للاهتمام والرعاية، ومن يقدم على فعل الخير يؤجر في حياته ومماته. فهل نخاف من الصاروخ ولا نخاف من حساب الله لأننا نجونا بأنفسنا وتركنا خلفنا حيوات من دون ماء أو طعام وبعض تلك الحيوانات قضت جوعا خلف أبواب أوصدت ظناً أن العودة ستكون قريبة".
ويلفت: "بات من الملاحظ أن هجرة جماعية للحيوانات تشهدها القرى الحدودية باتجاه الزهراني والقرى الساحلية بحثاً عن أثر لحياة، وبينها قطعان ماعز وخراف وأبقار تُركت لمصائرها، وحيوانات برية من ضباع وأبناء آوى وغيرها".
وبشمول إنذارات الإخلاء عشرات القرى في الجنوب، تمددت عائلة حسين حمزة وبات رفيق الحيوانات المشردة في البراري، إلى جانب إيوائه ما لا يقل عن 200 حيوان حرص على الاعتناء بها وتضميد جراحها وغالبيتها صادفها في طريقه بعد أن تخلى عنها أصحابها. وهناك حيوانات نجح حمزة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بإعادتها الى أصحابها، لكن ليست خاتمة كل الحكايات سعيدة.
الضاحية
على الرغم من كونها مهمة محفوفة بالمخاطر، تبقى إمكانية إنقاذ الحيوانات الأليفة من المنازل التي هجرها أصحابها في الضاحية ممكنة أكثر. تحكي هبة أبو الحسن، والتي تهتم بإيواء الحيوانات الأليفة المشردة أنّ الشوارع في الشويفات باتت مزدحمة بالقطط والكلاب التي تخلى عنها أصحابها، والتي ابتعدت عن الضاحية خوفاً من أصوات القصف المرعبة، الأمر الذي استدعى جولات ميدانية من قبل متطوعين للاهتمام بها.
نداء وواجب
تنتقد الناشطة في حماية الحيوانات غنى نحفاوي أصحاب مقولة: "تاركين الإنسان وراكضين ورا الحيوان". وكانت تطوعت من خلال صفحتها على الفايسبوك للتنسيق مع جهات في مدينة صور للبحث عن النعامة التي هربت من مزرعة نادي الجميل للفروسية وظهرت في الفيديو هائمة في الشوارع، وقد جن جنونها حين سمعت مواطناً يهلل لفكرة ذبحها وتناولها على العشاء.
تقول: "نحاول تأدية الواجب تجاه مخلوق عاجز عن النطق، ضعيف وتعرض لأبشع أنواع التنكيل في هذه الحرب الهمجية". ولاحقاً طمأنت: "تمكنت جمعية ليبانيز وايلد من تأمين مكان إيواء لحيوانات المزرعة لأن: "الرعاية والاهتمام ليست فقط من خلال تأمين الطعام والشراب، وإنما الأمان والحماية في حرب همجية تخطف الأرواح بالجملة".
ومن خلال صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، لا تتوانى نحفاوي على مدى سنوات عن التنسيق بين الجمعيات والأفراد لمساعدة الحيوانات الأليفة المتضررة أو التي تخلّى عنها أصحابها إبان الحرب وقبلها.
وقد وجهت قبل أيام نداء عاجلاً "لأي جمعية أو جهة ممن بإمكانها الوصول الى بركة أرنون حيث سقط عدد من الحيوانات العطشى وعلقت من دون إمكان نجدتها".
بدنا بيت لهالمكسور الخاطر والقلب💔 pic.twitter.com/Oa9KE8MvlH
— Ghina (@GhinaNahfawi) November 7, 2024
وكتبت: "من واجبي أن أنقل معاناة هذه الأرواح المكسورة، سواء قبل الحرب أو بعد اندلاعها. ونحن كناشطين لدينا رسالة لرفع الظلم عنها. في كل بلدان العالم تُجبر القوانين الدولة على الاهتمام بملف الحيوانات الشاردة والبرية باعتبارها ثروة البلد والحياة البرية، ولكن مؤسف أن القانون موجود منذ عام 2017، ولا من يسمع به".