توقف إطلاق النار ودخل الاتفاق بين لبنان وإسرائيل حيز التنفيذ، اختلف عدد كبير من اللبنانيين وكعادتهم على النتيجة، انتصار؟ هزيمة؟ تعادل؟ ونسوا كما في أحداث سابقة أن المصيبة تجمع ولا تفرّق، أو الأصحّ يفترض كذلك.
ما المفردات التي يمكن أن يستخدمها المرء لمواساة شخص فقد المكان الذي وُلد وتربى فيه، وجمع مقتطفات من شريط طفولته في دُرج في خزانة خشبيّة؟
الصور بعدسة الزميلين حسام شبارو ونبيل إسماعيل:
كيف يمكن أن تقنع أحداً لم يتمكن من أخذ حتى صورة تذكارية للعائلة قبل نزوحه، بأنّ الخسائر تعوّض، دون أن يبدو الأمر نوعاً من التقليل من حجم الخسارة أو "تنمية بشرية" لبث التفاؤل في غير أوانه؟ حتماً لا يوجد.
لن أدخل هنا في نقاش الانتصار والهزيمة، وكيف تجري مقاربة الأمور، أو كيف خرجنا من هذه الحرب الطاحنة. هنا أتكلم، وبعيداً من أي نقاش سياسي، أو مناكفات اعتدناها، وبعيداً أيضاً من حالة الإنكار التي يعيشها البعض، عن خسارة لا بد من الاعتراف بها، هي الحياة التي تحوّلت إلى ركام، الأحلام التي دُفنت تحتها، هي جنى العمر الذي كلّف ما كلّف.
صحيح أنه ما من حرب تخاض بلا خسائر ونعم الحجر يُعاد بناؤه ولكن لنقف اليوم أمام مرآتنا ونسأل: ألا يحق للإنسان أن يبكي دماراً فاق قدرته على الاستيعاب؟ ألا يحق له أن يتحسّر على نجاة الجسد وفقدان شغف الاستمرارية؟
أسئلة كثيرة عن المستقبل واليوم التالي أصبحت بالنسبة لكثيرين من سكان ضاحية بيروت الجنوبية بلا أجوبة مقنعة.
مع بدء الجيش الإسرائيلي بنشر خرائط الإخلاء، كتبت إحداهنّ جملة على صفحتها في موقع "فايسبوك": "كل البيوت حجارة إلا بيت بيي دفى". لعلّ هذا المنشور يختصر ما فعلته الصواريخ الإسرائيلية.
تغيّرت ملامح الضاحية. الشوارع والأحياء السكنية. مبانٍ دُمرت بالكامل ومُسحت عن الخرائط وكأنها لم تكن في يوم من الأيام موجودة. في هذه الأحياء ذكريات يفوق عمرها أربعين عاماً، تحولت في ثوان إلى مشاهد تخنق من عاش فيها.
من مدخل أوتستراد السيد هادي نصر الله باتجاه منطقة الكفاءات، إلى المريجة، الليلكي، حارة حريك وبئر العبد، إلى الجاموس، والحي الأبيض، وحي الأميركان، والسانت تيريز وغيرها، وعلى عكس ما شهدناه في حرب تموز/يوليو 2006، تعرضت معظم الأبنية لأضرار بالغة. حتى أن البعض لم يتمكن من التعرف إلى الحيّ الذي عاش فيه، بتفاصيله الصغيرة، بعدما غيّره القصف الإسرائيلي تماماً عما ألفه.
لحظات من الصدمة والألم وعدم التصديق تشعر بها ما إن تدخل إلى تلك المناطق لفداحة حجم الدمار والخراب. مواطنون يقفون أمام منازلهم وأملاكهم المدمرة، يتأملونها بحزن ولهفة "إنه قصف بغرض الأذى فقط".
تقول مواطنة خسرت منزلها في منطقة الجاموس، لـ"النهار": "أين غرفتي؟ أين أغراضي؟ من أين أبدأ؟ أين الصور؟ أين شهاداتنا المدرسية؟ أين الأريكة التي كنت أستلقي عليها؟ أين غرفة الطعام التي كانت تجمعنا؟ هي ربما أشياء ليست ثمينة بالنسبة للبعض، ولكن بالنسبة لي هي عمر بأكمله".
"ما حدن يقلّي الله يعوّض عليك". يبكي بحرقة مواطن خسر بيته في منطقة المريجة "ماذا عساني أقول، لا شيء يقال".
مواطنة أخرى من سكان المشرفية، كتبت على صفحتها في "فايسبوك": "ما في شي بيعوّض البيت لي ربيت فيه وتجوزت فيه وجبت أولادي فيه. ما حدا فيه يعوض 40 سنة".
وفي حديث لـ"النهار"، يقول مالك أحد الأبينة السكنية في منطقة الجاموس "شفت عالتلفزيون جنى عمري كله عم بروح بلمح البصر. 25 سنة شقى وتعب وسهر راحو هيك".
عند البعض، هول مشاهد الخراب تلاشى بعض الشيء عند العودة. "لا قيمة لهذه الحجارة أمام تضحيات الشهداء الذين دافعوا عنّا، والأهمّ أننا أصحاب هذا المكان، نعم نزحنا عنه ولكننا عدنا إليه".
في الحرب نربح أشياء ونخسر أخرى ولكنّ الأهم أن لا تبقى حياتنا حياة مع وقف التنفيذ، والاعتراف بحزننا على ما خسرنا ليس انكساراً ولا هزيمة.