الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

يومٌ في كلية الآداب بجامعة دمشق

علا شيب الدين
A+ A-

هو يوم 25 تشرين الثاني2013 نفسه، الذي انفجرت فيه سيارة مفخخة في السومَريّة غرب دمشق، في مكان مكتظ بمدنيين تناثر بعضهم أشلاءً وبعضهم جرحى. صرّح بعدها ناشطو الثورة الإعلاميون بريف دمشق بأن التفجير من تدبير النظام. لا يبعد مكان الانفجار كثيراً عن الكلية نفسها الكائنة في المزة وسط العاصمة، التي كنتُ يومذاك فيها بغاية الاستفسار عن تفصيل أكاديمي يخصّني.


الطريق إلى الكلية، ربما كما كل الطرق في سوريا، محفوف بكل شيء. بالخراب، بالأخطار. بأصوات الرصاص والمدافع. بالدخان الأسود المتصاعد من كل مكان. بالحواجز وأكياس الرمل والعسكر المدججين بالسلاح. بصور العائلة الأسدية. باللافتات، الشعارات، التوصيات، التحذيرات. غالباً، لا تعرف مَن ذا الذي يقف عند الحاجز، يرتدي بزة عسكرية مموهة، يعتمر خوذة تكاد تخفي عينيه، يطلب بطاقتك الشخصية، يرنو إليها بصمت، ثم يشير إليك أنْ تابع طريقك. أهو إيراني الجنسية، أم لبناني (حزب الله)، أم عراقي (أبو الفضل العباس)، أم سوري (أسدي)، أم من الحزب السوري القومي الاجتماعي؟ الأمر الوحيد الأكيد بالنسبة إليك أنك سوري الجنسية، مُهان في بلدك، مكسور الخاطر، روحك تنزف، ومع ذلك لا ترغب في مغادرة البلد، ففي داخلك يعشش عشق عظيم حياله.
بين الحاجز والآخر تلتقي بـ"الرئيس" في صور يبتسم في بعضها و"يفكر" في بعضها الآخر. أمّا أوقحها، فتلك المكتوب تحتها بالخط الأحمر العريض كلمة "منحبّك" تليها نقطتان من شأنهما تكرار الكلمة وديمومتها. يجتاحك حينذاك فضول ما، لمعرفة مكان ذاك السوري المتفرّغ لـ"الحُبّ"، غير المهموم بالبحث عن لقمة عيش تبقيه على قيد الحياة مثلاً، ثم تذهب بفكرك بعيداً من تلك الهموم اليومية التي قد تبدو متواضعة أمام "ومِن الحبّ ما قتل".
"على سيرة الحب. قبل يوم من كتابة هذه السطور، سقط أكثر من ثلاثين "قتيل حبّ مدني" وأكثر من مئتي "جريح حبّ مدني" في مدينة الرقة، بصاروخ سكود أرسله المحبوب هدية لمحبّيه اللدودين، وإشباعاً لنهم لا يشبع، في زيادة عدد المقتولين في حبه!".
بعد اجتياز العديد من الحواجز العسكرية على الطريق المستقيم، تطالعك في منعطف يُنهي استقامته، قبل أن تدخل في استقامة طريق جديد وحواجز جديدة، تطالعك لافتة كبيرة، يخاطبك المكتوب فيها كأخ ومواطِن، معتذراً عن تأخير الحواجز الكثيرة وصولك إلى المكان الذي تقصده، حرصاً على سلامتك. يدفعك لطف اللافتة إلى التفكير في فنجان القهوة الذي يحصل أحياناً أن يقدّمه رجال المخابرات إلى معتقَلٍ ما، أُفرِجَ عنه بعدما أشبِعَ تعذيباً، ثم وداعه عند الباب بـ"لا تآخذْنا".
تعود الصور من جديد. في هذه المرة، يظهر "الرئيس" في مكان استراتيجي، بزيّ عسكري كامل. يبدو أن هناك مَن اشتغل بشكل جيد على الصورة الفوتوغرافية الضخمة، بحيث لا يظهره الزيّ كمحارب خشن، أسد متجهّم، مخيف الأعداء وقاهرهم كما جرت العادة، بقدر ما يظهره "مودرن"، بحيث يبدو الزي العسكري هنا كأنه تسلية أو موضة، زينة، وخصوصاً أنه يترافق مع ابتسامة واثقة بالنصر ترتسم على الوجه وتلويح باليد. يبدو للممعن في خصائص الصورة تلك، أن الغاية منها على الأغلب، الجذب، والدفع إلى الاقتداء بصاحبها، عبر ارتداء الزي نفسه، خصوصاً من الشباب والشابات. تثبت صحة الاستنتاج هذا، من خلال رواج الزي العسكري وشيوع ارتدائه بالفعل، لدى البعض، مدنيين وعسكريين، نساءً ورجالاً، شيباً وشباباً. قد يُرتدى الزي العسكري كاملاً، أو يُكتفى بارتداء قطعة منه، كالبنطال فقط، أو السترة فقط. يأتي شيوع الزي العسكري بمثابة إعلان موالاة تامة. حتى لو كان المرء يستبطن غير ذلك، قد يلجأ إلى ارتدائه سعياً وراء الحماية، أو تسييراً لمصالح وأشغال. وعليه، ليس غريباً أن تصادف بائع خضر وفاكهة مدنياً مثلاً، يلبس الزي العسكري، كون هذا ما يقتضيه تصريف البضاعة والربح، ومرور الأمور بـ"سلام".


* * *


الدخول إلى الجامعة، بمثابة الدخول إلى ثكنة عسكرية، على الرغم من أن المسؤولين لم يفتهم استقبال الداخلين إلى أي مبنى فيها بصورة لـ"الرئيس" يرتدي فيها هذه المرة بدلة رسمية وربطة عنق تظهره كمدني، حضاري، متعلم، يحترم العلم والمتعلمين. تنبعث نزعة نكاية من الصور، تحديداً من كتابة اسم صاحبها مقروناً بعبارة "رئيس الجمهورية العربية السورية" التي تخاطب عقل مَن لا يعترف بالرئاسة تلك، بل تهدده. اجتماع المتناقضات هذا، الذي طالما مزّق الإنسان السوري عقلاً وروحاً، ضميراً ووجداناً، ليس جديداً، بل هو قائم منذ عقود، بُنيَ خلالها سجن الديكتاتورية والاستبداد من دون كلل أو ملل. لكنه اليوم واضح، فج، فظ بشكل مرعب.


ما يصعب مجرّد تصوّر حدوثه في أي جامعة في العالم، يحدث في جامعة دمشق كأنه "طبيعي" و"عادي". في "حديقة" الجامعة، "عادي" أن يمرّ الناس من أمام مشهد يُعتقَل فيه طالب جامعي فقط لأنه تجرّأ على واحدٍ من أولئك العسكر أو الشبّيحة المتخذين من "الحرَم" الجامعي مقرّاً. حدث هذا أمام ناظريّ. شعورٌ قاسٍ يتملكني كلما فكرتُ في المصير المجهول الذي جُرَّ إليه ذلك الطالب، وكلما قفزت إلى عقلي صورة عينيه المأخوذتين من شدة الخوف لحظة تمّ سحبه من يده. أطأطئ خجلاً لأني ما كنت آنذاك لأجرؤ على التدخل لتخليصه منهم. قد يتوقف هنا القارئ أو القارئة الكريمان، مستحضرَين ذكرى قصف طيران النظام الحربي جامعة حلب في منتصف كانون الثاني 2013، أو المجزرة التي سقط فيها عشرات الطلبة شهداء في "جامعة الثورة" نفسها، وقد يذهبان إلى أن ما أذكره هنا ليس مما يثير الاستغراب إلى هذا الحد.
الفراغ، غياب الأفق، الكآبة وضمور الحياة والنشاط، هذه كلها وأكثر، تكاد تكون قواسم مشتركة ربما بين الطلاب والأساتذة والإداريين والجميع. الوضع الاقتصادي المزري الآخذ في التدهور أكثر فأكثر، البطالة المتزايدة، الفقر المتزايد، ذلك كله وغيره بادٍ للعيان في الجامعة، ينعكس مثلاً على لباس الغالبية الساحقة من الطلبة. قاعات المحاضرات شبه فارغة من الطلبة. المقاصف والمطاعم تقلصت فيها الحركة المعهودة بشكل غير معقول، وغابت إلى حد كبير أجواء المرح والفرح الشبابية الجميلة الراقية الحقيقية. أنت مجبَر أنّى اتجهت، على الاستماع إلى ما لا يطاق من ألحان متشابهة تنبعث منها طائفية مقيتة، أو على مشاهدة فيديوات أُنتِجت وفقاً للمخطط الطائفي نفسه. تستطيل في عقلك مخالب تكاد تنهش دماغك كلما فكرت في أن تطلب استبدال ما لم تعد قادراً على الاستماع إليه في الحافلة، المطعم، المكتبة، بأغنية لفيروز مثلاً، تشعر بأنه موافَق عليها أَمنياً، فتكفّ عن التفكير في الاستبدال وتسكت.
تطاردك لوثة سمعية بصرية وروحية في كل مكان. لكن ثمة مواقف ما انفكّت تحصل، تخرق اللوثة التي قد تبدو للوهلة الأولى كأنها سرمدية، أزلية وأبدية في آن واحد. تزفر بعدها زفرة تنفث من خلالها كل اللوثة التي طالما تراكمت في الشهيق. تنسى اللوثة كلها، عندما ترى مشهداً تصرّ فيه صبيّة على رمي منديلها المستعمَل في الحاوية، من دون أن تجرّها كومة نفايات مرمية على قارعة الطريق عند "نفق الآداب" إلى استسهال رمي الأشياء كيفما اتفق. أو عندما تمرّ بطالبَين جالسَين على مقعد، يصرّ أحدهما على اقتسام السندويش، على رغم انعدام ثقته بقدرة النصف على إسكات الجوع، ورفض الآخر تناول النصف الثاني متجاهلاً جوعه، قاصداً توفير النصف الآخر للآخر. أو عندما تستفسر من أحد الواقفين في طابور، منتظراً دوره في الوصول إلى نافذة تلك الموظفة المتعالية، بغاية توقيع أوراقه وختمها، إن كان في إمكانه أن يعطيك دوره كونك مستعجلاً، فلا يمانع. يُخجلك لطفه، تزيد من شرح الظروف التي دفعتك إلى أخذ دوره، فيوقفك بلطف إضافي: "خَلَص. معليش. تكرم عينك. ولا يهمّك". أو عندما يوقف أحدهم سيارته بتهذيب وذوق، على رغم أنف الفوضى والبشاعة، لكي يسمح لك بمرور آمن. حينها، تدبّ الحياة في أوصالك من جديد. يريحك قليلاً التفكير في أن ما يحدث من بشاعة مهولة لا ينتمي إلى طبيعة السوريين وأصلهم الطيب، فتشعر أن ذلك يعطيك دفعة حيوية برغسونية تعيد إليك التوازن وتمنعك من انهيارٍ دائماً تظنّه وشيكاً.


* * *


في أجواء حرب مستعرة منذ أعوام، وبطش قلّ نظيره، قوبلت به ثورة حرية وكرامة استمرت شهوراً طويلة، مدنية سلمية؛ يبدو الجميع كسعاة حماية ذاتية. وتبدو الغالبية كأنها وجدت في الرموز وسيلة من الوسائل التي قد تحمي وتنقذ وتوفر سُبلَ عيش أيضاً، بصرف النظر عن كون المحتمي بهذا الرمز أو ذاك مؤمناً به أو لا. حيادياً تجاهه أو حميمياً. قارئاً، عارفاً أصله وجذره وتاريخه أو جاهلاً به. كان نتيجة تأثير المحيط أو نبع من قناعة عقلية شخصية داخلية. هكذا، تسعى الغالبية إلى تأكيد الانتماء الديني أو الطائفي أو الإثني على حساب عناصر أخرى تشكل الشخصية وتثريها. التأكيد نفسه الذي كان إلى حد كبير غير ملائم في ما مضى، يبدو اليوم كأنه طبيعي ومشروع. وعليه، تستشري ظاهرة اقتناء الرموز أو تعليقها، وتعمُّد إظهارها بوضوح، ويستفحل التفاخر بالانتماء إليها، وقد يُقصد من خلالها أيضاً التصريح بموقف صاحبها السياسي الموالي في مكان خاضع لسيطرة النظام. فالسيف تتوسطه خمسة ألوان متراصف بعضها فوق بعض مثلاً، بات شائعاً إلى حد ما، تدلّيه من الأعناق، واللون الأسود الحالك في اللباس ما عاد لدى البعض مصادفة أو رغبة مجردة، بل هو رمز لطائفة دينية معينة، يلبسه حتى مَن لا ينتمي إلى الطائفة نفسها كنوع من التحالف في الموالاة. ينطبق الأمر عينه في شأن شيوع ارتداء الزي العسكري، فارتداء الزي نفسه يبدو كرمز من شأنه الحماية وتسهيل الحياة اليومية وإمرار المصالح لدى مَن يرتديه من العسكريين أنفسهم والمدنيين، الرجال والنساء، الطلاب والطالبات على حد سواء. لا تبدو حُلى بعض الفتيات وتعليقهن أقراطاً تتدلى منها علامة "زائد" الفارقة مثلاً، زينة بريئة من كل قصد وغاية، بل هي رمز يدخل ضمن معمعة ارتكاس الغالبية بإظهار علامات اختلافها دينياً أو طائفياً بالشكل الذي قد يحمي حمَلة الرموز ويرضي النظام وأعوانه، ويسهّل المعاملات والأشغال في آن واحد. حتى الحجاب، تراه قد اتخذ طابعاً أو نمطاً يوحي في معنى ما أن صاحبته تستخدمه كرمز يحميها، إذ غالبية الطالبات المحجبات ارتدين حجاباً بدَون من خلاله كأنهن يردن بعث رسائل تفيد بأنهن منفتحات وعصريات لا أصوليات. قلما ترى حجاباً أسود خالصاً أو أبيض خالصاً قد يوحي برهبة ما أو هيبة مقلِقة، وسط شيوع الحجاب المزركش، الزاهي الألوان، الذي يوحي شكله كأن مَن تلبسه تقصد تكميل أناقتها من خلاله لا إخفاء شَعرها. لسنا ضد هذا الطراز من الحجاب بطبيعة الحال، بل على العكس، نؤيده كونه قد يشير في معنى ما إلى حب الحياة والأنوثة والفرح، بيد أننا نتكلم عن مقصد آخر مختلف من الحجاب نفسه، فهو هنا يبدو كأنه رمز ربما يحمي صاحبته ويجعلها في منأى من أي اتهام بالأصولية أو التكفير مثلاً، في مكان خاضع لسيطرة نظام ما انفكّ يخيف الناس المختلفين إثنياً أو طائفياً أو دينياً بعضهم من بعض.
أحد العساكر استغرق نفسه بالرموز، بشكل يثير فيك الحنق للوهلة الأولى، قبل أن تهدأ رويداً رويداً، فتشفق على مَن غالبه الموت إلى هذا الحد، واندثر ثراؤه كإنسان، في زمرة رموز انقسمت بين "زائد" معلّق بخيط تدلّى من العنق حتى منتصف الصدر، وصورة للعائلة الحاكمة بزي عسكري ونظارات شمسية سوداء أُلصِقَت على الجيب الأيسر للسترة، وصورة أخرى لعلَم البلاد التقليدي ذي الخط الأحمر مقروناً بعلَم البعث قريبة من الكتف اليسرى للسترة، وشريط حرير أخضر معقود بنزق حول مرفق اليد اليسرى، ووشم أزرق مكوّن من شيفرات يصعب فهمها، افترش مساحة لا بأس بها من الجانب الأُنسي للساعد الأيمن.
عندما فتح الدكتور الذي يدرّس إحدى المواد في أحد الأقسام الجامعية، مفكّرته مصادفة، ظهرت صورة الأسد في داخلها؛ فنزعتُ إلى الشك في معارضة ذلك الدكتور المتداولة سراً بين البعض في شأنه. لكن في ما بعد فهمت أن الصورة رمز لا بدّ من اقتنائه هنا كونه يقي الأستاذ الجامعي أحياناً، شرور المعتاشين من أذية الآخرين.
بدا المكان أشبه ما يكون بساحة مبارزة، تتمترس الغالبية فيها خلف رموزها، مدفوعة بالإغراء أو بالقلق أو بالرعب إلى التحصّن بـ"الهويات القاتلة" (التعبير لأمين معلوف). لكن في الآن نفسه، يمكن المرء أن يستشف من خلال بعض التجارب والمواقف، أن التقاء كل واحد بالآخر ليس بمستحيل، وأن بعض الناس يشعرون أحياناً بالقرب من معاصريهم المختلفين عنهم دينياً مثلاً، أكثر من أسلافهم من دينهم. طبيعة السوريين الأصلية المتسامحة الطيبة ربما تساعد إلى حد ما في التقاء الحدود المتطرفة، ولا نقول أن يصير الحد حداً آخر. ينبغي أولاً إسقاط النظام المسبب الأساسي للخراب، بشكل نهائي، ودحر الغزاة والمرتزقة و"القاعدة" وكل ما ليس بسوري وطنيّ.


* * *


ليس مستغرباً بالنسبة إلى السوريين أن تمشي امرأة أو طالبة مثلاً في الشارع برفقة زميلها أو خطيبها أو أيّ رجل مدني، لكن مشهد امرأة أو فتاة ترافق عسكرياً مدجَّجاً برشّاش، أو تجلس معه في أحد مطاعم الجامعة مثلاً، يبدو جديداً. لا يتعلق الأمر هنا بقصص حبّ كتلك التي نحلم بسوادها وتغلغلها. إذ العسكري هنا ربما يشكّل بالنسبة إلى المرأة رمزاً، تريده لكي يحميها فحسب. أو قد يكون الأمر نقيض ذلك، كأن يفرض العسكري نفسه على المرأة بقوة السلاح وعليها أن تنصاع برضاها أو رغماً عنها. إحدى القصص التي رواها أحد الأصدقاء المقرّبين العاملين في مجال الطب النفسي، مثيرة للسخط والحزن. فقد جاءت مرّة فتاة في الثامنة عشرة من العمر إلى عيادة زميله في الطب، سائلة عن إمكان العمل لديه كسكرتيرة. وافق الطبيب على طلبها، وبعد أيام من بدئها العمل، جاءه شبّيح شاب مسلّح، طالباً منه طرد الفتاة كونها خطيبته ولا يريدها أن تعمل. تحت وطأة السلاح، ما كان للطبيب مجال آخر غير الرضوخ لطلب الشبّيح. بعد السؤال عن الفتاة، اكتُشف أنها تنتمي إلى عائلة سنّية مسكينة، لا حول لها ولا قوة، وأن ذلك الشبّيح آثر السكن في بيت العائلة تلك وابتزازها. بات يستعبد الفتاة ويعتبرها ملكه. يقول للآخرين إنها خطيبته من قبيل التطرية والتلطيف، لكن الأمر في حقيقته، اغتصاب يومي، فالفتاة لا تريده، وهي مجبَرة على قبول وضع كهذا، ولا أحد من أفراد العائلة يستطيع طرد الشبّيح من البيت، أو منعه من فعل أي شيء. ثمة الكثير من القصص المشابهة تحدث، إذ واردٌ أن يذهب أحدهم بزيّ عسكري إلى مدرسة ويطلب التلميذة التي يريد من دون أن يكون للمدير مثلاً، أي سلطة في منعه. حصل ذلك مثلاً مع إحدى الفتيات النازحات من مخيم اليرموك بجنوب دمشق إلى جرمانة. كان الحظ حليفها، إذ كانت غائبة عن المدرسة، يوم جاء أحد العساكر الذي طالما تسلّط عليها، لطلبها من المدرسة، حسبما رواه الصديق نفسه. في واقع تسوده الفوضى وسطوة السلاح وغياب القانون والقضاء والمحاكم، يمكن أن تحصل التجاوزات المرعبة كلها، وما من محاسِب ولا معاقِب.
قصص كثيرة هنا وهناك، أشدّ هولاً، تشدّك للقيام باستقصاء خيالي، عما يمكن أن يكون دائراً في الظلمات والأعماق. عما يمكن أن يكون أداة فنائنا أو خلاصنا، عبوديتنا أو حريتنا، إحباطاتنا أو أحلامنا وآمالنا كسوريين وسوريات.


*كاتبة سورية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم