الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

اللحظة الوعرة

علا شيب الدين
A+ A-

هرباً من جملة أشياء، أوضحها جملة بلهاء: "كل عام وأنتم بخير"، في وطن من الواضح أنه ليس بخير؛ تفاديتُ في عيد الأضحى الفائت أسوةً بما سبقه من أعياد ومناسبات، الالتقاء بأولئك المعتكفين في أقلويتهم. لو جاءت فيروز آنذاك لمعايدتي ما كنت لأقابلها بغير ذرف الدموع، وبضع كلمات حزينة للشاعر السوري فواز القادري: "ما عم يلعبو لولاد يا فيروز، ليلى ولين ما عم يلعبو" والسماء لم تعد زرقاء.


طوال أيام العيد كنتُ أمضي مع ريّان، ابن الحياة الجميل وابن شقيقي وابن الأربعة أعوام إلا ثلاثة أشهر، قاصدين "ملعبنا". في الطريق إليه، كنا نحيّي الطبيعة كصديقة كما جرت العادة. نتحسس شوكة هنا، نستعير أوراقاً من شجرة هناك، أو نصفر لعصفور يمرّ من فوقنا مغرداً؛ تارة يمشي ريّان يده في يدي، طوراً يتعب فأحمله. يناديني باسمي وأناديه باسمه على غرار المألوف بيننا. حتى الآن، لم يتعرّف ريّان ذهنياً إلى مفردة من قبيل "عمّتي". هو سعيد كما يبدو لي بانعدام الوسائط اللغوية الثقيلة بيننا، التي قد تعرقل بلوغه المباشر إليّ. سعادة لم ألمحها في عينيه تجاه عبارات لها أصداء طبقية من قبيل "أحسنت يا أمير الأمراء" أو "ثابر يا بطل" التي ملأت بها معلّمته دفتره، في الروضة التي دخلها حديثاً. لقد خلا دفتره من جملة تشجيع واحدة تخاطبه باسمه مباشرة من دون وسائط لغوية لا يفهمها ولا معنى لها بالنسبة إليه. هذا جزء من ثقافة تربية وتعليم رامية عفوياً أو قصدياً إلى تغريب الشخص عن ذاته، ونسْب كل نجاح له إلى آخر مجهول. هي ثقافة رائجة وراسخة عندنا على كل حال، لا يكون في ظلها الإنسان مهمّاً ويستحق الشكر والتقدير ما لم يكن أميراً، ابن حسَب ونسَب، أو بطلاً خارقاً العادة.
ذات مساء، بينما كنتُ أقصّ على ريّان "حكايا الشجرة الجدة"، عرّجنا على الحصان والحمار، ثم فجأةً، قرأتُ في عينيه ما يفيد بأن الحمار أقل شأناً أو أدنى مرتبة من الحصان. ثبتَ ما قرأته، بعدما قرر إنهاء إحدى القصص بفوز الحصان وهزيمة الحمار، مع أن موضوع القصة كان مختلفاً تماماً، وما من نهاية لها بهذا الشكل. أمّا كيف انتقل إلى ذهنه تصور كهذا؟ فالأمر على ما يبدو في غاية التعقيد، لكن ليس مستبعداً أن يكون قد انتقل إليه من خلال ما رآه في حصان الجار الفلاّح، من رشاقة وعلوّ وذيل مضفر يكاد يصل الأرض، وتعاطي الكبار ذوي النزوع التقليدي الصلف إلى المراتبية، أمام ناظريه، مع تلك الخصائص باهتمام لم يعيروه للحمار المثقل بحمولات القمح والشعير والتبن.
ما علينا، لنعد إلى "ملعبنا" الذي قضينا فيه على مدار أيام أجمل أوقات ما قبل الظهيرة. ملعبنا، كان عبارة عن فسحة ترابية، مسوّرة بحجارة، فيها شجرة تين وحماران ودلو ماء وضعه صاحب الفسحة ليشرب منه حماراه قبل أن يعود مساء على عادته كي يأخذهما. أحد الحمارين كان أسود والآخر أبيض موشّح بالرمادي. للوهلة الأولى، دهمنا إحساس عن بُعد مفاده أن ذا اللون الأسود حمار، وأن الآخر حمار(ة)، وبقينا نتعاطى مع كليهما على هذا الأساس مع أننا لم نختبر صحة إحساسنا، ربما لأن الأسود لم يبرح مكانه ولم ينظر إلينا البتة، أو لأن سواده حالك، بينما زهو لون الآخر وحيويته، وتفاعله معنا عبر النظر إلينا أو الاقتراب منا، كان من شأنه أن يدفعنا دفعاً لاعتباره أنثى، كون تلك الخصائص، وخصوصاً التفاعل، أنثوية تماماً في التصور، كما أن البشاشة لم تفارق وجه الحمار(ة) طوال فترة النظر إلينا بصمت. بشاشة تثير في العقل تساؤلاً غامضاً في شأن تجاهل الذين عرّفوا الإنسان بـ"الكائن الضاحك" تمييزاً له عن بقية الكائنات الحية، بشاشة بعض الحيوانات، بل تفوقها في ذلك أحياناً على الإنسان الذي يمضي شطراً مهماً من حياته حزيناً متألماً لا ضاحكاً.
سمات التسخير التي هيمنت على صاحب الحمارين في علاقته بهما، لم تكن لتهيمن على "اللعب الخالص" معهما من جهتنا، إذ انعدم كل إحساس لدينا بـ"السيادة" أو "المركزية" البشريتين تجاههما، في أثناء الدعة واللعب معهما. لا بل ما كان ريّان ليفصل نفسه عنهما، كطفل لا يحمل في ذهنه أثقالاً من الأحكام والإيديولوجيات، لا يزال في أوج دهشته ومفاجأته بالمحدثات. عندما أخبرته أن الحمار(ة) حيوان أليف، استحضر حيوانات لا تعدو معرفته بها التلفاز أو الألعاب البلاستيكية، وقال: إذاً الحمار ليس متوحشاً كالنمر والأسد. الألفة جرّت التوحش من حيث لا ندري. يبدو أن النقائض وفصفصة الأشياء من خلال نقائضها تدخل في صميم وجودنا كبشر.
في تلك الفسحة، كنا كمَن يلزم نفسه مهمة ممتعة ليست هينة، نمضي في الكلام المشوق، كلمة تستدعي أخرى، كذاك الذي يصنع عقداً من أقحوان. كنا أمام الحمارين، متأملين، كأننا أمام معضلة فلسفية. ما من شيء أكثر متعة ربما من اللعب الخالص مع حيوانات، ومن التحدث إلى طفل.


* * *


 



لم يستوعب الرصين "ش"، كيف يمكن البشر أن يكونوا أنانيين إلى هذا الحد. يحتطبون الأشجار الحية لكي يتدفأوا، يأكلون الكلاب والحمير لكي يبقوا على قيد الحياة. مع أنه سبق لـ"ش" نفسه أن استوعب – يا للمفارقة والفارق – حرق الشبّيحة بيته قبل نزوحه مع أسرته من محافظته إلى دمشق. الهمّة التي أظهرها الرصين المثقف "ش" في نقد المستضعَفين، لم يكن ليجرؤ على مثلها في ما يخص الحصار والمجازر والمذابح التي يرتكبها "النظام" منذ اندلاع الثورة. لم يكلّف نفسه عناء فكّ "شيفرة" عدم تمكّن فرق الإغاثة الدولية من الوصول إلى المحاصَرين، وبأي حق يُحاصَرون وتُمنع عنهم أسباب الحياة أصلاً. لم ينبس ببنت شفة، لم يكتب كلمة يدين فيها "النظام" في التهامه لحوم السوريين واحتطابه سوريا!
ليسوا قلائل مَن يشبهون "ش" في "الرصانة"، خصوصاً بعض زعماء "الأسرة" الدولية، وعملاؤهم مخرِّبو الطبيعتين الإنسانية والطبيعية الحقيقيون. لكن مما لا شك فيه، أننا في غالبيتنا ربما، نكون ظرفاء لطفاء مع المحيط الذي نحن جزء منه، مع أمّنا الطبيعة، عندما نكون في حال "اللعب الخالص". لا نتخيلنا نقطع شجرة مثمرة، أو نأكل كلباً أو حماراً، مع أن الأمر من "منظور حيواني" بحت لا يفترق كثيراً عن أكل دجاجة أو خروف. بيد أن الظرف واللطف، قد لا يبقيان على حالهما عندما تحلّ كارثة تهدد وجودنا الإنساني في الصميم، خصوصاً أننا كبشر، نخضع مثل غيرنا من الكائنات لـ"قانون" البقاء أو الصراع من أجله. أمّا كيف يمكن أن يتصرف أيّ منّا إذا ما تعرّض لما يهدد وجوده كالجوع وغيره، فهذا ما لا تمكن الإجابة عنه قبل التجربة، العيش، المكابدة والمعاناة. بعدها فقط، في تلك اللحظة الوعرة بالذات، قد نتعرّف إلى نصفنا الآخر الذي لم تكن لدينا أي فكرة عنه في أحوالنا "العادية". إصرارنا على الحياة أو البقاء، لا يقلّ غموضاً عن الميتافيزيقا، وغالباً ما ننسى عندما نتعاطى مع الطبيعة باعتبارها لغزاً أو أحجية تتطلب التفسير، أننا نحن أيضاً لغز من ألغاز هذا الكون(؟!).


* * *


لنا أن نستشرف مستقبلاً تؤسس له لحظة يتفرس فيها طفل في عنق طفل آخر منحور، أو في وجه كلب مذبوح. كلب صديق لطالما لعب معه، يأكل لحمه جوعا. إنها اللحظة الوعرة التي قد تكبر معه، ويكبر معها الميل الكبير والفظيع إلى التدمير، أو نقيضه الخلاّق المبدع، إن شئنا أن نتفاءل في ولادة جمال عظيم من خراب عميم. دوماً سيبقى للتفرس في الذاكرة، عميق الأثر في كل شيء، وقد يضيف إلى حياة الكثيرين من السوريين، الكثير من المدى.


* كاتبة سورية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم