الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

مجزرة الغوطة كارثة لا تهزم شعباً ولا تقتل ثورة

علا شيب الدين
A+ A-

خرج السوريون في تظاهرات سلمية غاضبة، جابت مختلف المدن والبلدات السورية، في جمعة اسمها "الإرهابي بشار يقتل المدنيين بالكيماوي والعالم يتفرّج". أما مدلولات التسمية، فهي سقوط 1302 شهيد بهجوم كيميائي نفّذه النظام على غوطتي دمشق الشرقية والغربية، 67 في المئة منهم نساء وأطفال، وإصابة 9838 شخصاً، عدد الإصابات الشديدة 3041، بحسب بيان رقم 2، موقّع بتاريخ 22آب 2013 وممهور بختم "المكتب الطبي الثوري الموحد" في الغوطة الشرقية. نوّه المكتب نفسه في نهاية البيان بأن هذا الإحصاء لا يشمل الغوطة الغربية، التي تعرَّضت هي أيضاً إلى هجوم كيميائي يوم الأربعاء 21 آب 2013. تجدر الإشارة إلى أنه في كل يوم وفي كل لحظة يُكتشف شهداء جدد، ما يعني أن ما جاء في البيان هو مجرد حصيلة أولية، والحقيقة أن عدد الشهداء أكبر من ذلك بكثير.


الهجوم بالسلاح الكيميائي الآنف الذكر ليس الأول، فقد هاجم النظام في فترات سابقة من الثورة، مناطق في ريف دمشق وحلب وريف إدلب وحمص، وغيرها مما وثّقه ناشطون ميدانيون بصور وفيديوات تعرض حالات لأشخاص أُصيبوا بمواد سامة، إلا أن الهجوم الأخير كان الأشد "توحّشاً"، ما ينبئ ربما بتصعيد أكثر هولاً. فالمتابِع الجيد لـ"سياسة" النظام المتّبعة في قمع الثورة منذ الأيام الأولى لتفجّرها، لا بد أن ينتبه إلى التدرّج أو التصاعد في القمع، وتفاوته بين محافظة وأخرى، بين مدينة أو قرية وأخرى، بل بين حيّ وآخر. إذ القمع الذي كان عنفاً ثم تحوّل مع مرور الأيام حرب إبادة بشكل مدروس، غايته الإنهاك، وقتل الروح الثوري، وكسر إرادة الحرية، وتدمير طاقة الحب والحياة أو الارتقاء بالذات وبالأخلاق وقيم المواطنة التي انطلقت الثورة من أجلها، بغية تكريس الكره والحقد بين الناس، وتمزيق النسيج الاجتماعي السوري، وتأجيج العصبيات الطائفية والمذهبية والإثنية والدينية، ناهيك بتدمير البنية التحتية. التدرّج في استخدام القوة، جاء مواكَبةً لاستمرار التظاهرات السلمية وازدياد دفق الحياة فيها، وهذه بدورها تصاعدت وتيرتها واتسعت، مع ارتفاع منسوب القمع وازدياده، ما جعل العلاقة بين تصاعد ثورة الشعب السلمية وتصاعد عنف النظام، طردية وجدلية ومتداخلة. هكذا، إلى أن وصلت الثورة إلى مرحلة ما عادت فيها السلمية الخالصة مجدية، فانتقلت إلى طور آخر يسمح باستخدام العنف دفاعاً عن النفس. ما يميز الثورة عن النظام هنا، أن لها أطواراً عدة لم تحدث قطيعة في ما بينها. فبعض سمات الطور السلمي الأول مثلاً، ظل موجوداً، وإنْ بزخم أقل، حيث أن التظاهرات السلمية أو الأنشطة المدنية استمرت إلى جانب القتال العسكري. أما النظام، فهناك طور وحيد يعيش فيه ويتعيّش منه ليس منذ اندلاع الثورة فحسب، بل منذ تسلمه مقاليد الحكم والمُلك في سوريا، هو طور الترهيب والبطش والتشبيح السديمي "الأبدي".
رصْد سيرورة الثورة إذاً، يدفع إلى الثقة باستمرار الثورة على الرغم من كل شيء أولاً؛ ويدفع تالياً إلى عدم استبعاد تصعيد النظام في استخدام السلاح الكيميائي أكثر فأكثر. النظام الذي انتقل من القتل بالرشّاشات والمسدسات، إلى القتل والتدمير بالمدافع والدبّابات، ثم بالطائرات والبراميل المتفجرة وصواريخ سكود، ولا يزال يعمل بدأب تحت إمرة السلطة الإيرانية المنخرطة في القتال لإبقائه، كونه راعياً مصالحها في سوريا. من أجل ذلك كله، بات من الضرورة القصوى، إفناء هذا النظام منعاً لحدوث كارثة إنسانية كبرى قد تكون أشد بشاعة مما حدث ولا يزال يحدث.
* * *
غوطة دمشق، تحاصرها قوات النظام وشبيحته، منذ أكثر من سنة. مقطوع عنها الغذاء، الدواء، الماء، الكهرباء، والمحروقات. أسوة ببقية المناطق الثائرة على امتداد الأرض السورية؛ دمّرها النظام قصفاً، قتلاً، اعتقالاً، اغتصاباً، نهباً وسلباً، تخريباً وحرقاً، ثم هجوماً كيميائياً مفاجئاً قبيل الفجر بينما كان الأهالي نياماً! لعل سائلاً يسأل عن ماهية هذه الحرب القذرة الجبانة، التي يغذّيها الذعر الوجودي من قلق الفناء لدى نظامٍ، عدوّه شعبه. عدوّ يتكون في غالبيته الساحقة، من أطفال ونساء ومسنّين وأبرياء عزّل، جوعى، مرضى، حفاة عراة! البدائيون حتى، كما يخبرنا أوتو كلاينبرغ في كتابه "علم النفس الاجتماعي" (صفحة 93-94)، "تخضع حروبهم في معظم الحالات لقواعد محددة في التعامل مع الأعداء، مثلاً: بعضهم (الاوستراليون) يقدمون أسلحة للبيض غير المسلحين قبل الهجوم، وآخرون يرسلون قوارب مؤن غذائية للأعداء الجائعين كي تكون الحرب متكافئة، وهناك مَن روى أن بعض الهنود اقتسموا بارودهم مع أعدائهم. كل الحالات تلك تتخذ طابع المباراة الرياضية. من ناحية أخرى، فإن الغارات المفاجئة من دون إنذار، غير معروفة تقريباً في الحرب البدائية".
عندما يصبح الأطفال عقبة وجودية في وجه سعادة مَن يعتقدون أنفسهم بشراً، لهم وحدهم الحق في الوجود والتمتع بالحياة، وعندما تصير نساء بسيطات، مصدر خطر وتهديد ينبغي أن تُفجّر في قبالته نزوة الموت والانتقام وخرق القوانين كلها بما فيها القانون الدولي الذي يحرّم الأسلحة الكيميائية، وعندما لا يمكن تضخيم أنا الطاغية، إلا من خلال تشييء محكوميه، وقتلهم فداءً له من دون أدنى إحساس بالتعاطف أو الشفقة تجاههم كونه تم اعتبارهم "أشياء" لا تحس ولا تتألم...، عندما يحدث ذلك كله وغيره الكثير مما تعجز اللغة عن مواكبته؛ تصبح الحاجة إلى إعادة النظر في التاريخ والواقع والقوانين والقيم والمفاهيم البشرية، وفي كل شيء، ضرورة ينقشع معها ضباب العقل، ويتضح أمامه تفوّق بعض "المعاصرين" في الوحشية والهمجية، على البدائيين!
* * *
يتوقع المرء، بعد حدوث كارثة بشرية مثل مجزرة الغوطة، أن يضمحلّ السياسي أمام الأخلاقي والإنساني، لكن ثمة ما يعصف بهذا التوقع، يتراوح بين التمييع والتعمية، وبين المزايدة في المنطق والعقلانية وتعمّد الإسراف في التحليلات والفذلكات، والإمعان في معمعة التجاذبات السياسية والتنابذ، وتنازع الأطماع والمصالح الفردية والجماعية، الشخصية الحقيقية والاعتبارية، المحلية والإقليمية والدولية. يُستعمل الأطفال والنساء والأبرياء، كأدوات لتمييع الحقيقة وتسييسها وخلط الأوراق، وتنهمر الاستعراضات "الإنسانية". استعراضات، ينزع بعضها إلى زرع الشك في العقول بشأن هوية الفاعل "المعروف المكشوف"، ثم يُصار إلى تقديم المدنيين كضحية لـ"طرفين" متصارعَين! كم يُفرِح القاتل هذا التمييع، وينعشه وينقذه! يتناسى أولئك "الإنسانيون" أن تسمية الأشياء بمسمياتها لكي لا يهرب الجناة من قبضة العدالة، هو الإنسانية بعينها، هو الحب في حد ذاته، وهو العقلانية والمنطق. فالعدل أو إحقاق القانون أهم من تباكٍ مجّاني، لأن من شأن ذلك حماية مدنيين آخرين لا يزالون أحياء نابضين، ومن شأنه أيضاً جعل القانون فوق الجميع وسيد المجتمعات وناظم العلاقات. إنه القانون الذي لا ينبغي له أن يكون حارس الأقوياء ومضطهِد الضعفاء. يُطلق، استناداً إليه، سراح ديكتاتور مخلوع مثل مبارك، عاث ظلماً في أرض مصر ثلاثة عقود، في اليوم نفسه الذي خرق فيه النظام في سوريا قانوناً دولياً "يمنع" استخدام السلاح الكيميائي!
بالنسبة إلينا، كسوريين عشنا في ظل الاستبداد والاستعباد، وعانينا منهما نحو نصف قرن من الزمن، ولا نزال، لا نحتاج إلى أدلة، لكي نعرف هوية قاتل شبابنا وأطفالنا وأمهاتهم وآبائهم وأجدادهم وجدّاتهم، في الغوطة وفي غير الغوطة، في أثناء الثورة وما قبل الثورة. إنها العائلة الحاكمة المالكة ونظامها الجائر وحلفاؤها. أما الأدلة، فقد يحتاج إليها غير السوريين إذا ما خامرمهم الشك في هوية مرتكب مجزرة الغوطة وغيرها. عندئذ، في الإمكان مشاهدة الصور المروعة المرعبة لضحايا الكيميائي التي عمّت وسائل الإعلام كافة بواسطة كاميرات "الناشطين السوريين الميدانيين"، وفي الإمكان إمعان التفكير في مطالبات الثائرين والناشطين جميعهم بدخول "لجنة التفتيش الدولية" في شأن استخدام السلاح الكيميائي، قبل اندثار الأدلة التي تثبت استخدام النظام للكيميائي، فمعلوم أن بعض أنواع المواد الكيميائية يختفي أثرها بعد مرور ساعات أو أيام قليلة جداً. تلك اللجنة القابعة في فندق فخم وسط العاصمة، تفصله عن مكان المجزرة مسافة تقل ربما عن 3 كيلومتر. وفي الإمكان التساؤل عن سبب انشقاق عناصر عن النظام من كتيبة الكيمياء بعد مجزرة الغوطة. أو في الإمكان استرجاع ذكرى مذبحة حماة في ثمانينات القرن المنصرم، وإعادة النظر في سلوك النظام منذ بداية الثورة، الموغل في قتل السوريين واعتقالهم وارتكاب المجازر الطائفية في حقهم وتدمير منازلهم وتهجيرهم وتشريدهم. هذا كله إذا استثنينا "الأقمار الاصطناعية" التي تكشف بدقة، متى، كيف، من أين، وإلى أين اتجهت الضربات!
في 8/11/2012، اعتُقل لدى أحد فروع الاستخبارات بدمشق، صديق روحي، مأمون نوفل. مأمون، شاعر رقيق، حالم، مرهف الشعور، يعشق الإخراج السينمائي، ثائر سلمي شجاع وحقيقي. صرف مأمون، ابن السويداء المقيم في بلدة جرمانا بدمشق، جهداً عظيماً في العمل الإغاثي ومساعدة الناس المحاصرين في ريف دمشق الثائر، وكان كريماً سخيّاً. في اليوم التالي لمجزرة الغوطة، أي في 22/8/2013، سلّم "الأمن" أهله بطاقة هويته الشخصية وأغراضه الخاصة، بعدما رفضوا تسليمهم جثته، وعمدوا إلى دفن الجثة من دون السماح لأهله بمعاينتها، وفق ما ذكرته "تنسيقية جرمانا" التي رجّحت أن يكون سبب ذلك آثار التعذيب الوحشي على الجثة. استشهاد مأمون نوفل تحت التعذيب، ليس إلا مثالاً من أمثلة مصائر يصعب حصرها ووصفها أو حتى تخيّلها، تبدو كأنها لعنة الأقدار حلّت على شعب يريد الحرية، والخلاص من نظام القهر. نعم، نحن السوريين الأحرار لسنا في حاجة إلى أدلة تعرِّفنا إلى هوية قاتل أهلنا وأبنائنا وأصدقائنا وأحبائنا. نعرفها حق المعرفة!


 كاتبة سورية

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم