الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

حين تتلاقى مهارات المايسترو والفيلهارمونية والترومبيت المنفردة في كنيسة القديس يوسف

مي منسى
حين تتلاقى مهارات المايسترو والفيلهارمونية والترومبيت المنفردة في كنيسة القديس يوسف
حين تتلاقى مهارات المايسترو والفيلهارمونية والترومبيت المنفردة في كنيسة القديس يوسف
A+ A-

إذا العين لم تغفل لحظة عن براعة قائد الأوركسترا غارو أفيسيان، في اقتلاعه الموسيقى من جذورها ورشّها بكفّين سخيّتين على الأوركسترا، فالحواس كلّها تتضامن حتى لا تفوتنا ذرّة من هذا التلاقي المنسجم بين المايسترو وعازف الترومبيت فياشلاف بيليا والفيلهارمونية الوطنية التي باتت رمزاً مشعاً على جبين الوطن، وقيمة ثقافية وفنيّة، جامعة أزمنة الموسيقى كلّها في "ريبيرتوارها"، طيّعة في تآلفها مع كل قائد يحطّ ضيفاً على طقوسها الأسبوعية، حاضنة كل عازف منفرد، ترصّع نجوميته في رهافة معدنها.
أمسية الجمعة احتوت كونشرتو لترومبيت وأوركسترا لآرام أروتيونيان المؤلّف الذي استوحى من فولكلور أرضه كتابة حديثة، السمفونية الثانية لجان سيبيليوس، من مقدّمتها نتهيّأ لأسلوب سمفوني غني بألوانه، وخياله، يفوق مفهوم السمفونيات من بعيد.
المايسترو غارو أفيسيان، السائح بريشة القيادة في العالمين الآسيوي والغربي، عاد إلى بيروت المدينة التي ولد فيها، وقاد فيها الفيلهارمونية الوطنية العام 2008 بدعوة من الدكتور وليد غلمية، ومنذ شهر تشرين الأول الماضي، عيّنه الدكتور وليد مسلّم لتدريب أوركسترا الشباب في المعهد الوطني للموسيقى. بأناقته ووسامته، كانت المنصّة له، جامعاً في هذا الكونشرتو المشع بإرث إرمينيا وفوح فولكلورها، الأوركسترا وترومبيت فياشسلاف بيليا، العازف الأوكراني الذي انتخب كأفضل عازف ترومبيت في حفلات موسيقية عدة، منها في ستوكهولم بقيادة السير نيفيل مارينير، كما في كييف وبروكسيل ولندن ومدريد وبولونيا. هذا الشاب الذي أذهلنا بعلاقته مع آلته، دخل منذ العام 2015، في مجموعة الآلات النحاسية في الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية، هذه الأوركسترا التي باتت متساوية بالأوركسترات العالمية.
الترومبيت استهلّت الكونشرتو بزفّها حدثاً، تلقته الأوركسترا بدينامية النبرات الصادحة من أنفاس نافخها. المايسترو أعطى من غزارة يديه دفعاً للأوركسترا لتكون على قدر موسيقى شعبيّة، عالقة في حنين الذاكرة، توحي في بعضها لحناً عابراً لآرام خاتشادوريان. الترومبيت بدت تنادي من البعيد، كمسافر عائد إلى الديار، إلى أنفاسه، أنفاس الكلارينيت والهوبوا، تبعتها الكمانات والشيللو والباس. أهازيج الترومبيت تعالت متسامية، كراو، لديه ما يرويه للجماعة. صمتت الأوركسترا فيما فياشسلاف بيليا، يؤنسن آلته في أداء منفرد، طغت على سماته انسجامات شاعرية، ليريكيّة. كان وحيداً يخاطب الصمت المحيط به إلى أن عادت الحميّة إلى العيد الفولكلوري، بارتفاع نمط أوركسترالي يوحي بمشهد ربيعي راقص.
السمفونية الثانية لجان سيبيليوس، لقاء استعراضي، ديناميكي، بين القائد وأوركستراه. بحذافير الدقة النابعة من يدي غارو أفيسيان، سمعنا الأوركسترا تتلوّن بسحر سيبيليوس. كان المايسترو هو أيضاً ذلك الساحر الذي فرض انتباهاً منا لكل ثانية. لقد كان متواصلاً برهافة كليّة مع هندسات السمفونية، يفجّر بيديه تركيبتها المدهشة بين الجامد والحيوي، بين المتوازن والمختل عمداً، لما في عبقرية سيبيليوس من تناقضات حين تتفوّق لعبة البناء على الميلوديا التي في غير سمفونيّاته، تتلقّف الميلوديا السيبيلينية مشاعرنا، ويغوينا ذلك الحنين الدافق من أرض خيالية، كخيوط حريرية فارضة وجودها في حياكة عباراته. في السمفونية الثانية، أرهفنا السمع والحواس لنتلقى مشاهد، اعترف بأني تهت مرّات في غرابة حياكتها، لأعود مرّات أخرى فألتقط بفرح، مهارات تلاوينها. هذا هو سيبيليوس في سمفونيته الثانية، التي ربما هي الأكثر تعمّقاً في رؤاه العجيبة، والأهم صياغة حين يمد الأوركسترا بتناقضات فريدة، فلا نكاد نستشف لمسات شفّافة حيناً حتى تتوارى الجملة الليريكية لجمل جافة، نقيضتها. المايسترو، في اقتلاعه هذه الابتكارات المذهلة من جذور سيبيليوس وخياله، كان يتولّى توزيعها بالقيراط هنا وهناك على العازفين. الممعن من الحضور في مواكبة هذا الابداع المهم والشائك في آن واحد، كان عليه الإبحار في الموج وعكسه. من عناصر الحركات الأربع لهذه التحفة السمفونية، وبمتابعة حسّوية لكل تفصيل، صرت بوحي من دينامية المايسترو أخرج من الظل وأتقدّم من النور.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم