الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

"دعوة خاصة من صديقي سيوران" لجورج شلهوب الحياة تمرّ من تحتكَ وأنتَ تلتقطها بشباك الكلمات

عقل العويط
عقل العويط
"دعوة خاصة من صديقي سيوران" لجورج شلهوب الحياة تمرّ من تحتكَ وأنتَ تلتقطها بشباك الكلمات
"دعوة خاصة من صديقي سيوران" لجورج شلهوب الحياة تمرّ من تحتكَ وأنتَ تلتقطها بشباك الكلمات
A+ A-

أصدر جورج شلهوب للتوّ ديوانه الثالث، "دعوة خاصة من صديقي سيوران"، عن "الدار العربية للعلوم ناشرون". هذا الشاعر الشاب والجديد يتقدم من كتاب إلى كتاب. يتقدم في الكلمات، في القصيدة الواحدة، في الحالة، في داخلها، وليس في الخارج. مهمته الأولى والأخيرة في هذا الكتاب، البحث عن التمزقات والذرّات المتناثرة، ليجمعها، وليعيد توليف نظراتها العدمية، الساخرة والثاقبة، وتأوهاتها، وأعصابها، وجراحها، والمواءمة بين غربتها والشواطئ التي ترتمي على برّها. هو لا يجد حرجاً في مواصلة البحث المتأني. وهو يفعل ذلك لا عبثاً، بل بخبرة العصفور الصيدلاني، الذي لا يرى ضيراً في الهجس الممتع والمضروب بلعنة الوجود والعدم.


يسعدني أن الشعر موجود في هذا الكتاب. يسعدني أن الشاعر يعرف. لكن يسعدني في الآن نفسه، وبالقدر نفسه، ربما أكثر، أنه ليس من المهم أن يعرف. أحياناً، يعثر الصياد على طريدته من طريق المصادفة، التي نجد في الشعر ما يعادلها من حيث الأهمية، وهذا ما يسمّيه السورياليون le hazard poetique. الجهل أجمل الطرق إلى اللقيا. بل أقول هو أجمل من إعمال الاجتهاد للوصول إلى المعرفة. الشاعر، بين المعرفة واللامعرفة، يروح وراء الحالة، دائماً وراء الحالة، كطفلٍ مذعور، كقمرٍ هاجمٍ على الليل، مفتشاً عن الكلمات كأنها أمّ، ليتعلّق بطرف ثوبها، وفي قصده أن يشقّ أوجاع العاصفة، أو يشقّ عالم الفراغ والعدم، ليعثر على بستان، أو سرير، أو سقف، أو... صورة. في هذا الموضع بالذات، وليس في غيره، يبحث جورج شلهوب عن ذاته، عن ذات الكلمات. هذا شيء جيد. وهو ليس عيباً بالتأكيد، ولا قلة حيلة. ففي هذا الموضع نفسه قد يعبر الكثيرون ولا يعثرون على شيء نيّر. هذا الشاعر الشاب يعبر ويعثر. ثمّ يعبر ويعاود الكرّة، كأنه يتذكّر صورةً، أو مرآة، أو صرخة، أو نسمة، أو بقايا لقطة من مشهد غيميّ، عبثيّ، قاتم، مظلم، ممزّق، لا بدّ أن يتملّص من وقائعها وتفاصيلها وإضافاتها، ليواصل المشي التذكريّ، كأنه لم يمش من قبل، ولم ير من قبل، ولم يتذكر من قبل.
بهذه الطريقة، يعيد جورج شلهوب توصيل ما انقطع من خيطان الذات، وشظاياها، المرمية في القعر، أو السابحة في الفضاء، متملّصةً من الجاذبية، لكنْ على طريقة العصافير التي تستجمع هواء أعشاشها في نظراتها ومناقيرها، كأنها لم يسبق لها أن فعلت ذلك من قبل. لا بدّ أن ثمة وراء ذلك دافعاً طفولياً لاواعياً وغامضاً يحضّ الشاعر على القيام بذلك، وعلى معاودة التجربة. ترى، هل "يعرف" الشاعر أن الذات هي الشعر كلّه، وأنها موجودة لا في رأسه وقلبه فحسب، بل موجودة في العالم، الذي يصير هو هذه الذات. لكن لا أحد يدري كيف، وأين. ولا الشاعر يدري. وهذا هو موطن الشعر. وهناك ينبغي للشاعر أن يمضي باحثاً عن ذاته في العالم، وعن العالم في ذاته.
هذه العلاقة الجدلية بين الذات والعالم، هي ذاتها هذا المختبر الصيدلاني الذي يعثر فيه الشاعر على شظايا ذاته المبعثرة، ليعيد خلطها، وتوليدها، وكأن لا شيء من هذا كله يقع تحت الإدراك العقلي. لهذا السبب، أعتقد أن الكتاب حالة واحدة، قصيدة واحدة. هي ليست بالطبع قصيدة أفقية، بل دائرية بامتياز. لأن المكان الذي تبدأ منه هو المكان الذي يمكنها أن تغادره كما لو أنها لم تبدأه ولم تباشره. شيءٌ كهذا، يجعل الشاعر قادراً على استنطاق العدم، باعتباره قوام هذا العالم الدائري. ويجعله قادراً على استنطاق ما فاته إدراكه من عالم اللاوعي.
أعتقد أن جورج شلهوب إذا واصل جمع الغيوم المتناثرة والمفككة والمبعثرة والسائلة من أعماق ذاته، لقادر على متابعة شقّ الطرق داخل تجربته. ينبغي له، والحال هذه، أن يواظب على الحفر في العدم، وأن لا يترك وحلاً في الغيوم، كما يبدو أنه قد فعل في هذا الكتاب بالذات. عملية التنقية، والغربلة، والاختزال، والتصفية، هي جلّ ما يبتغيه الشعر لكي يظلّ متمكناً من التصدي للبشاعة، والتغلب عليها.
هذه الدعوة الخاصة من الصديق سيوران، فلتحفز الشاعر، والشعراء الذين من جيله، والشعراء الذين سيأتون لاحقاً، على إدراك الجدوى الشعرية الهائلة من الحفر في مناطق العدم، وعلى تظهيرها في قصيدة.


[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم