الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

أميركا إيستوود التي تتهاوى

أميركا إيستوود التي تتهاوى
أميركا إيستوود التي تتهاوى
A+ A-

اطّلعتُ على معظم الإنتاج الأميركي المتوافر العام الماضي، المستقلّ والمرتبط بالـ"مايجرز"، وأكثر هذه الأفلام التي هتف قلبي له ومدّني بالأفكار هو "سولي" لكلينت إيستوود. في السينما المعاصرة، لا يوجد مثل هذا المؤلّف في الحديث عن بلاده، ودراسة آلياتها القضائية والاستخباراتية، والاجتماعية عموماً. أميركا التي صوّرها هنا هي تلك التي تتهاوى كما الطائرة تماماً. من خلال حادثة عرضية لم تدم سوى ثوانٍ، اخترق إيستوود كلّ قواعد فيلم الحركة التي كان يمكن أن تحذو حذوها حادثة هبوط الطائرة على نهر هدسون.


"أحلّقُ في الأجواء منذ 40 عاماً، في النهاية سيُحكم عليّ من خلال 208 دقائق"، يقول قائد الطائرة بعد أن يضطّر خلال سلسلة من الجلسات، الدفاع عن نفسه، في اعتبار أنه لم يكن لديه خيار آخر سوى الهبوط على النهر. مناسبة لندرك أنّ ردّ الفعل على الحادثة أهم من الحادثة نفسها، أسوة بالمنطق السائد في حياتنا الحديثة، وهذه الفكرة يبني عليها إيستوود خطابه الكبير. ينظر إلى الحادثة بسينيكيته العادية، بلؤم شيخ السينما الأميركية الذي لا يزال، على رغم بلوغه السادسة والثمانين، قادراً على إنجاز فيلم بهاتين النضارة والمباشرة، فيلم عن أهمية اتخاذ القرار في اللحظات المصيرية والتحلي بالمسؤولية وشخصنة آلية العمل الذي بلغ مرتبة عالية من المكننة. إنه كلّ هذه الأمور التي تسخّفها السلطة وتضعها في إطار القانون الذي يصعب عليه أخد العامل البشري في الاعتبار.
إيستوود انشغل كثيراً بموضوع البطولة منذ مطلع الألفية. "رايات آبائنا" كان ذورة هذا الاهتمام. البطولة وما تحمله من معانٍ واجتهادات، سواء في الثقافة الشعبية الأميركية أو في سينما هوليوود الكلاسيكية. إيستوود فعل في "سولي" عكس ما فعل في "رايات آبائنا": فالبلاد التي يتحدّث عنها هنا هي بلاد تبحث عن بطل (بعدما خفت نجمها)، فتجد البطولة في رجل تصرّف غريزياً، وهو بطل مدان حتى اثبات العكس. في فيلم تدور حوادثه بعد سنوات قليلة من تروما 9/11، السؤال الذي يعود إلى البال: هل هو قصد البطولة أم أنه أنقذ الحيوات غريزياً، تالياً لم يفعل سوى ما أُوكل إليه من مهمة؟ هنا كلّ الفيلم: في هذا السؤال الشبح.
الشبح ليس متمثلاً في السؤال فحسب، بل في "بقايا" العقد الزمني الذي يعيشه سولي. عقد التروما. ينظر من النافذة فيرى عبرها انعكاسات لمخاوفه. والشبح رابط تيماتيكي مهم في أعمال إيستوود. يطارد مثلاً المراهقين الثلاثة في "ميستيك ريفر" (2003) بعد أن يتعرّض أحدهم لاعتداءات جنسية. الشبح، سواء في الوجوه أو الأصوات، هو ما يتكرّر مثل اللازمة في "رايات آبائنا"، عبر استعادات زمنية، طويلة ومتتالية. في فيلم سابق له، قالت إحدى الشخصيات: "لكي نفهم الحياة. علينا أن نتعاون مع الموتى". هنا، سولي هو هذا الذي يتعاون مع الأموات وهو يتخيّل طائرته ترتطم بأحد برجي مركز التجارة العالمي (أو في ما يتهيأ له أنه كذلك). تروما ما بعد 11/9، تعود مجدداً لتخون الفيلم بكامله، مخربطة الأشياء، للقول إنّ سولي أراد تفادي الكارثة تلك بمفعول رجعي، لا لإنقاذ البشر.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم